شهر رمضان… وفرصة تطوير الذات
ربيع عبد الرؤوف الزواوي
شهر رمضان فرصة حقيقية للنفس كي تنطلق نحو المكارم وفضائل الأعمال فتحصلها، منتفعة بخفة يجدها الإنسان في نفسه وقت تحرره من تخمة الطعام بالنهار، وتعود آيات الكتاب بالليل فتذكره بتلك المكارم، فهو بين تدريب عملي بالنهار، وتدريب علمي بالليل.
- التصنيفات: التصنيف العام - تربية النفس - ملفات شهر رمضان -
يتفق العقلاء على أن تطوير الذات أمر مهم يُسعى لتحقيقه، وتُبذل الجهود الجبارة لأجل الوصول إليه، لأنه يعتبر نقطة انطلاق الذات من القيود السفلية التي تقيد النفس عن الانطلاق إلى عالم الفضائل والمكارم، ومن هذه القيود التي تقيد النفس الشهوات وكثرة الطعام والشراب وغير ذلك.
ولما كان شهر رمضان يتيح للإنسان وقتا لا بأس به في اليوم بعيدا عن الطعام والشراب والشهوة، فقد كان بذلك شهرا يُعد زمنا كافيا للتدريب على هذا الانطلاق الذي نصف…
شهر رمضان فرصة حقيقة للنفس كي تنطلق نحو الفضائل؛ فهو يخلصها بالنهار من قيد التخمة ويرقى بها في الليل للتقلب بين يدي بارئها في قيام الليل.
شهر رمضان فرصة حقيقية للنفس كي تنطلق نحو الآخرة، فآيات الله تعالى تعالج في طياتها حقيقة الموت، وتناقش في أسلوب راق ما يجد الإنسان بعد موته، وتذكره بطول البقاء في البرزخ، وتؤكد عليه سوء منقلب الكافرين، وحلاوة نعيم المؤمنين، وتتنقل به آي القرآن الكريم بين الدارين الخالدتين، الجنة والنار، وتصف له أحوال أهل كل منهما، فتذكره بحبور وسرور المنعمين في الجنان، وتزجره بوصف حال أهل النار أعاذنا الله منها، وتضع بين يديه حقيقة هذا الحياة الفانية، وتنبهه على أهميتها في كونها مزرعة للآخرة، ومحطة للتزود من الصالحات، وتصف له الزاد الحقيقي، {…وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى…}.
شهر رمضان فرصة حقيقية للنفس كي تنطلق نحو المكارم وفضائل الأعمال فتحصلها، منتفعة بخفة يجدها الإنسان في نفسه وقت تحرره من تخمة الطعام بالنهار، وتعود آيات الكتاب بالليل فتذكره بتلك المكارم، فهو بين تدريب عملي بالنهار، وتدريب علمي بالليل.
كثير من الناس استطاعوا في رمضان أن يتخلصوا من عادات سيئة لزموها عمرا، وهذا يؤكد ما نقرره في هذا المقام، وكثير من العصاة أقلعوا عن معاصيهم في هذا الشهر الكريم، وهذا ملموس ومشاهد، ويحدثك به الناس، وربما يحدثك به العصاة أنفسهم إن كنت قريبا منهم، وتعودت أن تأخذ بأيديهم إلى بر الأمان، فاقتربوا منك وصارحوك بما يجدون.
كثير من العصاة يستحون من الله في رمضان، فيمتنعون عن مقارفة الذنب، ويقلعون عنه في الشهر الفضيل، فتكون سببا في الامتناع عنه في غير رمضان.
نقول ذلك لأننا تعودنا أن نشغل أنفسنا بما يعده أصحاب قنوات التلفزة من باطل ولهو، فنتصور أن أهل المعاصي ينشطون في رمضان أكثر منه في غير رمضان، وهذا تصور خطأ ولا شك، فرغم ذلك الباطل المهيأ للناس في رمضان، تجد أكثر الناس ولله الحمد متيقظين متنبهين لهذا الفخ المنصوب لهم في ليال هذا الشهر الكريم.
فإنك لا تكاد تركب حافلة عامة، أو تمشي في شوارع مدينة من المدن، أو في قرية من قرى الريف، في شهر رمضان إلا وتقع عينك على قارئ لكتاب الله، ماسك بالمصحف في يده يسابق الساعات في ختم القرآن مرة على الأقل في شهر رمضان؛ ففي يوم واحد شاهدت في حافلة النقل العام أكثر من شخص يمسكون بالمصحف في أيديهم يقرأون كتاب الله، ثم تنقلت – في نفس اليوم – بين ثلاث أماكن عامة أقضي حاجة من حوائج الدنيا، فأجد المنتظرين دورهم مثلي ممسكين بالمصاحف في أيديهم يقرأون القرآن، بل رأيت من كان يتلو من حفظه.
وأعرف كثيرا من الحالات لأناس متقاطعين متناحرين – وربما عائلات – فإذا دخل شهر رمضان أو ربما قبل دخول شهر رمضان تواصلوا ورفعوا ما بينهم من خلاف، وطووه خلفهم ظهريا، فكأن شيئا لم يكن، كل ذلك لأنهم يدركون في أنفسهم أن رمضان فرصة للتغيير للتي هي أحسن.
وأعرف كثيرا ممن كان شهر رمضان سببا في إقلاعهم عن التدخين، وكذلك سمعت أكثر من مره ممن كنت أحثهم عن الإقلاع عن هذه العادة المحرمة أنهم سيقلعون عنه في رمضان.
أما من يحاولون تيئيسنا من حالنا، ويغفلون ذكر تلك المظاهر الطيبة، وملامح التغيير الذي نراها في رمضان، ويركزون على أخطاء فردية لأشخاص يعدون على الأصابع في الحي أو البلد أو المدينة، فإنهم مخطئون، ولكن نلتمس لهم العذر في أنهم قوم صالحون فضلاء يتمنون الكمال لأنفسهم وللناس. ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
فرمضان فرصة للظالم كي يقلع عن ظلمه، وفرصة للعاق ليتوب من عقوقه، وفرصة للمسرف المبذر أن يقلع عن إسرافه وتبذيره، وفرصة للمدخن أن يقلع عن التدخين، وفرصة لمن تعود على الكذب أن يدعه، وفرصة لمن يفرطون في صلاة النوافل وقيام الليل وصوم النوافل في غير رمضان، بل حتى لمن يقصرون في صلاة الفرائض أن يعودوا إلى جادة الصواب، رمضان فرصة لمن نسي حق الفقراء في المال الذي خوله ربه أن يبادر بإخراج ذلك الحق وزيادة، رمضان فرصة حقيقية للتغيير وللتطوير، فاللهم خذ بأيدينا للتي هي أحسن.