غفلة

محمد علي يوسف

نتعجب من مباغتة الموت ونحزن لأننا لم نعلم ولن نعلم لكن عدم تمكننا من العلم لا يعني عدم تمكننا من الأمر الآخر المرتبط بهذا العلم الاستعداد أن نتأهب لتلك اللحظة ألا نركن لعمل لا نحب أن نلقى الله ونحن متلبسون به

  • التصنيفات: الموت وما بعده -
غفلة

جمل عامية مكررة عند الوفاة: "كان لسة معايا امبارح"..

معقول..

دي كانت لسة مكلماني في التليفون من يومين! ..

كان عمال يهزر ومزاجه آخر روقان!..

دي كانت زي الفل وصحتها ممتازة!!..

لم يكن يشتكي من أي مرض!..

ده في عز شبابه..

اتخطف!..

أنا مش مصدق!!..

 

هذه عينة من جمل تشعر أن سماعها يكاد يكون عاملا مشتركا عند كل وفاة جمل تلخص حالة الدهشة والتعجب حيال موت المقصود بها لكن ما سبب هذه الدهشة المفرطة والذهول المتكرر.

 

هل يفترض أن يتعامل الميت في الأيام والساعات السابقة لموته باعتبار ما سيكون بعد حين؟

هل يتصور أن ساعاته في الدنيا صارت معدودة ومن ثم عليه أن يهجر الخلق ويدع هاتفه وتعاملاته مع الناس ويتفرغ فقط للاستعداد لما هو مقبل عليه؟

 

هل هو يعلم أو يشعر؟

الإجابة عن كل ما سبق لن يختلف فيها متدبر متأمل

لا..

 

لا يفترض ولا يشترط شيء من ذلك قد تكون هناك استثناءات ومؤشرات في بعض الحالات لكن الحقيقة التي يعلمها الجميع ويوقنون بها هي ببساطة تتلخص في جملة واحدة.

 

الموت يأتي بغتة..

أينما تكونوا يدرككم الموت..

وما تدري نفس ماذا تكسب غدا..

وما تدري نفس بأي أرض تموت..

ساعة الموت وميعاد الأجل وقيامة ابن آدم الصغرى كل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله..

لماذا إذاً كل هذا التعجب؟

ما سبب كل تلك الدهشة ما دمنا جميعا ندرك هذه الحقائق؟

 

أعتقد أن الأمر في حقيقته هو حالة من إنكار الواقع سببها الرغبة..

كلنا لديه تلك الرغبة..

الرغبة في ألا نؤخذ بغتة..

أن تكون لدينا الفرصة لنتدارك أنفسنا..

لنستعد ونتهيأ لتلك اللحظة..

لحظة الموت..

هذه رغبتنا وهي تتحول بالتدريج إلى ظن نتركه يتنامى في نفوسنا..

ظن مفاده أن هذا يحدث فقط للغير..

لن نؤخذ بغتة..

لن نموت فجأة..

أكيد ستواتينا الفرصة..

أكيد سنشعر أو تكون هناك مقدمات..

 

يتعاظم هذا الظن حتى نركن إليه وتصيبنا تلك الحالة المتقدمة من إنكار الحقيقة وننسى ونتغافل عن كوننا لن نعلم أبدا..

 

ثم يصدمنا موت الفجأة لنستيقظ من تلك الحالة الإنكارية ونتعلم أن الأمر حدث ويحدث حدث لغيرنا اليوم وسيحدث لنا غدا..

 

سنهاتف فلانا ونتناول العشاء مع علان ونمازح فلانا وفلانة..

ثم لا يجدوننا إلى جوارهم وسيندهشون أيضا ويتحدثون عن تلك المواقف التي شاركناهم إياها أمس ليفاجأوا اليوم بأننا قد غادرناهم..

 

سيندهشون كما دهشنا ويتعجبون كما تعجبنا لأنهم نسوا وغفلوا كما نسينا وغفلنا {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.

 

هذه هي المشكلة:

الحيدة..

التغافل..

الرفض..

الإنكار..

{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} هذه الغفلة هي ما تجعلنا في كل مرة نفاجأ..

 

نتعجب من مباغتة الموت ونحزن لأننا لم نعلم ولن نعلم لكن عدم تمكننا من العلم لا يعني عدم تمكننا من الأمر الآخر المرتبط بهذا العلم الاستعداد أن نتأهب لتلك اللحظة ألا نركن لعمل لا نحب أن نلقى الله ونحن متلبسون به ألا يطول بنا الأمد وتغرنا الأماني ويلهينا الغرور عندئذ لن يكون لهذه الجمل محل من الإعراب ولن يكون هناك مجال للدهشة..

فقط حين نستعد..

وإن لم نكن نعلم..

وأفوض أمري إلى الله.