المرأة والأعمال العامة
محمد محمد حسين
قد لا تكون هناك نصوص صريحة في القرآن أو السنة تَمْنَعُ المرأة من العمل في خارج البيت؛ لكَسْبِ عَيْشِها حين تدعو إلى ذلك ضرورة؛ ولكن من المؤكَّد أنَّ اتخاذ هذه القاعدةِ أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعيِّ يُخَالِفُ رُوح الشريعة، ويُناقِض كثيرًا من نصوصها، ويتعارَض مع كثير من شرائعها وحدودها تعارُضًا صريحًا.
- التصنيفات: التصنيف العام - قضايا المرأة المسلمة - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعدُ..
زَعَمَ أعداءُ المرأة المُتظاهِرون بالدِّفاع عنها بعد أن أخرجوها من بيتها، الذي زعموه سجنًا وسمَّوْا ذلك تحريرًا، أن حريتها لا تكمُل إلا بمنحها حقَّ العمل مع الرجل سواءً بسواء، وتسَرَّبَتِ المرأة إلى ميادينَ محدودةٍ منَ العمل في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الذي يَجْرِي في تركيا بعد الانقلاب الكمالي يُشجِّع على ذلك، ويُعِين عليه، باعتباره وجهًا من وجوه النهضة؛ كما يزعمون، ثُمَّ استفحل الأمر بعد الحرب العالمية الثانية فأُقْحِمَتِ المرأة على كُلِّ ميادين العمل بلا استثناء، وشاركَتْ في الحكم وفي التشريع إلى أعلى درجاتِهِما، بعد أن مُنحتْ حقَّ المشاركة في الانتخاب، وفي تمثيل الشعب في المجالس النيابية، وتولَّتِ الوزارات، ولم يلبث هذا التقليد أنِ انتشر في كثير من البلاد العربية، واتَّخذ شكل الطفرة المفاجِئة، والانقلاب الأهوج في بعضها، وراحتْ بَقِيَّة البِلادِ الَّتي لم تلحقها الموجة تُعانِي من صَدّ تيَّارها الطاغي في مواجهة الزَّاحِفين.
ويستطيع الدارس المتأمِّل أن يرى بوضوح في كل ما يجري أن المرأة لا تُوضَع حيث تدعو الحاجة - صحيحةً كانت أو مزعومةً - إلى أن توضع؛ ولكنها توضع لإثبات وجودها في كل مكان، ولإقحامِها على كل ما كان العقل والعُرْف يُنادِي بِعَدَمِ صلاحِيَتِها له؛ فليس المقصودُ بِتَوْظِيفِها سدَّ حاجة موجودة؛ ولكن المقصود هو مخالفة عُرْفٍ راسِخ، وتحطيمُ قاعدةٍ مُقَرَّرة، وإقامة عُرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذَّوق، وخَلْقُ المبررات والمقوِّمات التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا وعُروبتنا أمرًا واقِعًا؛ كما تجعل دُخُولنا في دين الغرب ومذاهب الغرب وفسق الغرب، أمرًا واقعًا كذلك.
والحُجَّة الأولى عند أنصار هذه الدعوة: أن المرأة نصف المجتمع، وأننا حين نَحْرِمُها من العمل نُعطِّل نصف القُوَى العاملة.
والحُجَّة باطلةٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّها قائمة على افتراض أنها لا عمل لها في البيت يَشغَل كلَّ وقتها، وهو غير صحيح.
وثانيهما: أنَّ حُجَّتهم لا تقوم إلا بعد أن نقضي على البِطالة في الرجال قَضاءً كاملاً، وإذا قُلْتُ: البطالة، فالمقصود بها البطالة في كل صورها الصريحة والمُقنَّعَة، والبطالة المُقَنَّعَة أكثر انتشارًا من البطالة الصريحة، وأبرزُ صُوَرِها زيادة العِمالة عن حاجة العمل الحقيقية، والاشْتِغال بالأعمال التافهة، واحتراف الحِرَف غير المفيدة؛ بل الضارَّة في كثير من الأحيان، والإهمال أو التراخي في القيام بواجبات الوظيفة، أو الانزواء وتَرْك العمل جُمْلَة؛ اعتمادًا على وجوه للرزق ضيقة أو واسِعة، تجئ بغير عمل من طريق الصَّدقات، أو الأُعْطِية، والإعانات.
ومنَ المُغالطات المشهورة التي ابتدعها قاسم أمين، وتابعه فيها كثير من الناس أنهم يقولون: إنَّ بين النساء نابِغاتٍ، وبينهن عانِسات، وبينهن مَنْ فَقَدَتِ الزَّوج والعائل، فلماذا لا يُشارك هؤلاء في الأعمال العامَّة في الحياة؟ والواقِعُ أنَّ الإسلام لم يُنْكِرْ على المرأة حقَّها في السَّعْي الشريف لِلرّزق إنْ دعتها إلى ذلك ضرورة، فالإسلام سَمْحٌ، وقد أباح للضرورة أشياءَ كثيرةً، حتى الميَتْة ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله، فرَفَع الإِثْم فيها عنِ المضطر في أكثر من موضع من القرآن الكريم: [البقرة: 173] – [المائدة: 3] – [الأنعام: 145] – [النحل: 115]؛ بل رفع الإثْمَ عَمَّن أُكْرِه على الكُفْر، وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان [النحل: 116]، واشتراك مَنِ اشترك من المُسلمات في الجهاد، مِمَّن يَتَصَيَّدُونَ أسماءَهُنَّ في كُتُب التاريخ، هو من باب الاستثناء الذي تدعو إليه الضرورة، وهو في كل الأحوال لا يتجَاوَز حدود الأعمال التي تُلائِمُ المرأة؛ كالتَّمريض؛ والخدمة خَلْفَ صفوف القتال، ومصدر الخطأ والخَلْط في ذلك كله ناشِئ عن وضع الاستثناء والشذوذ موضعَ القاعدة والأصلِ من ناحية، واتخاذ أعمال الأفراد حُجَّة على الشرع نفسه من ناحية أخرى.
ومن أكْبَر ما يَشْغَلُ المُتزعّمينَ لهذه القضيَّة الخاسرة -: أنَّهم يجعلون أكْبَر همِّهم مصروفًا إلى إثبات أنَّ المرأة تستطيع القيام بأعمال الرِّجال، وأنها إنسان مثله لا فرق بين عقلها وعقله، ويُجْهِدونَ أَنْفُسَهم في حصر الأمثلة التي تُؤَيِّد زعمهم مِمَّن نَبغ من النساء في مختلِف العصور, من المسلمات وغيرِ المسلمات، وهو من الشذوذ الذي يُراد وضعه موضع القاعدة؛ وليس هو في كل حال لُبَّ المشكِل وصميمَهُ، ولا هو بالمقياس الصحيح في تقدير الخطأ والصواب في هذا الأمر؛ ولكن لُبَّ المشكِل وصميمَهُ هو: هل يؤثر اشتغال المرأة بعمل الرجل على إتقانها لعملها النَّسَوِيِّ الأصيلِ؟
من الواضح أنَّ عمل الأنثى الأول الذي خُلقت له هو النَّسْل، وحفظ النوع؛ لأن تركيب الذُّكْران العُضْويَّ لا يسمح لهم بحمل الجنين ولا بإرضاعه، وليس عَبَثًا أن خَلَقَ الله الذكر والأنثى، ومن الثابت أن إرهاق المرأة بالعمل يترك أثرًا في مِزاجها وفي أعصابها، ومن الثابت أيضًا أن هذا الأثر ينتقل إلى جنينها في حالة الحمل؛ كما ينتقل إلى طفلها في حالة الإرضاع؛ بل إن بعض عُلماء الوراثة يتحدثون عن وراثة الصفات، والأعراض الطارئة والغريبة على الأب والأم كليهما من آثار المُخالطة في أثناء العُلوق والحمل.
ثُمّ إن المرأة مُحْتَاجَة بعد ذلك إلى أن تُوَفَّر لها الفرصةُ الكاملة؛ لمُلازَمَةِ طِفْلِها مُلازَمَةً تسمح بأن يُصْنَع على عينها جسمًا وعقلاً وخُلُقًا؛ لكي تَغرس فيه العادات الفاضلة، وتُجَنِّبَهُ ما قد يَعْرِضُ له أو يطرأ عليه من عادات قبيحة، ومثلُ هذا لا يَتَأَتَّى بالأمر أوِ النهي مرَّة أو مرَّات؛ ولكن لا بد فيه منَ المُراقبة الدائمة والإشراف القريب على تَكرار الفعل حتَّى يَرْسَخَ في نفسه، واليقظة على الزجر مرة بعد مرَّات عن بعض الأفعال الأخرى، حتَّى يُحالَ بَيْنَها وبَيْنَ الرُّسُوخ في نفسه، وذلك كله لا يُغْنِي فيه الخَدَم، ولا دُورُ الحضانة غَناءَ الأم؛ لأن الإخلاص فيه والحِرْصَ على ابتغاء الكمال مِنْ كل وجه لا يتوَافَر في أحدٍ توافُرَهُ في الأُمّ.
والقَوْل بأنَّ كُلَّ صلة الأم بولدها تَنْحَصِر في الحمل والوَضْع، هو نُزولٌ بِالإنسان إلى مَرْتَبَةِ الحيوان؛ فالإنسانُ يَمتازُ بِطُول حضانَتِه لأَولاده، وهي حضانة لا تنحصر في توفير الغذاء والحماية؛ كما هو في سائِرِ الحيوان؛ ولكنَّها حضانة خُلُقيَّة وعقليَّة أيْضًا في الإنسان، وذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ الأسبابِ في تَقَدُّم البَشَرِيَّة؛ لأنه يُورِّثُ الجيل التاليَ تجارِبَ الأجيال السابقة, بِما يمكنه من مُتابعة الشَّوْطِ، وتوفير الوَقْتِ والجهْدِ الَّذِي يَضيع في تَكرار التجرِبة.
وَلَوْ شِئْنا لقُلْنَا - بعد ذلك كُلِّه لأَعْدَاءِ المَرْأَةِ وأَعْدَاء أنفُسِهم، مِمَّنْ جَرَى عُرْفُ الصُّحُفِ والكُتَّاب في هذه الأيَّام على تَسْمِيَتِهِم "أنصار المرأة" -: إن المرأة لا تصلح للكَدِّ وممارسة الأعمال العامَّة صلاحيةَ الرجل؛ لأنها بحُكْم تكوينها تَحيضُ أُسْبُوعًا في كُلِّ شهر، وهي حالة تَكاد تكونُ مَرَضًا عند بعض النساء، تُخْرِجها عن مألوف عاداتها، وهي بعد ذلك إن حملت ظلَّت تُعانِي في الشهور الأولى من حالة "الوَحَمِ"، وما يلازمه من أسقام، ثُمَّ إنها تعانِي في الشهور الأخيرة من ثِقَلِ الحَمْل، الَّذي يُقَيِّد حركاتِها حتى يكاد يَشُلُّها، فإذا لم تكنِ المرأة العاملة متزوِّجَةً كانت مشغولةً بالبحث عن الزوج، مُعرَّضَةً للزلل، والتفريط عند كل بارقة من الأمل في الظَّفَرِ به، وهي لا تعدِل عن ذلك، ولا تنصرف عنه، إلا لعلَّة قد تكون شرًّا من البحث عن الزوج وأخْطَر.
ثُمَّ إنَّ حياتَنا الحديثة تقوم في كل شؤونها، ومختلِف نواحيها على التخصُّص الدقيق الذي يُتِيحُ دِقَّة المَعْرِفة، وحِذْق المرانة لكل عاكف على فرع بعينه، والتربية الحديثة تُحاوِل أن تكتشف مواهِبَ الأطفال والصِّبْية؛ لتُوجِّه كلاًّ منهم فيما يُلائم استعداده وتكوينه، فلماذا نُطَبِّق هذين المبدأينِ - التخصُّص والعمل المناسب - في كل شيء، ونَأْبَى تطبيقَهُما في الرجل والمرأة!
ويستطيعُ كُلُّ ذي لُبٍّ وبصيرة أن يدرك آثار الفشل الذي حاق بتجارِب المجتمع الأوروبي والأمريكي في هذه الناحية، مع أن هذه الآثار لم تبلغ بعدُ منتهى مَدَاها، ولا يزال سائر عقابيلها في الطريق؛ فهذا الجيل من التائهينَ والضائعينَ، المُحَطَّمي الأعصاب، والمُبَلْبَلِي الأفكار، والقَلِقِي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع – حَسَبَ إحصاء الغربيين أنفسِهم - للانحراف والشذوذ بكل ضروبه وألوانه، هذه الظواهر كلها هي من آثار التجرِبة التي خاضَها الغرب في المرأة؛ لأنَّ هؤلاء جميعًا هم أبناء العاملات والمُوظَّفات، الذين عانَوْا من إرهاق أُمَّهاتهم وهم في بطونِهنَّ، ثُمّ تعرضوا لإهمالِهِنَّ بعد أن وضعنهم، ثم لم يجدوا ما يردعهم عما تدعوهم إليه النفس من شَطَط، في ظل الأجواء التي تُقدِّس الحرية في كل صورها دون حدود، وقد كان هتلر على حقٍّ حين هداه تفكيره إلى حلِّ كثير من مشاكل مجتمَعِهِ الألماني عن طريق عودة المرأة إلى البيت.
والعجيب من أمر هذه القضيَّة المَوْهُومة أن المرأة لم تقم فيها بالخطوة الأولى، ولم تحمل أعباءها فيما تلا من خطوات، ولكن الرجال هم الذين قاموا بهذا العِبْء من بدئه حتى نهايته ولا يزالون؛ بل هم يُعارِضُون الآن أشدَّ المعارضة ما يُبْدِيهِ بعض العقلاء من الدعوة إلى مراجعة التجرِبة الفاشلة، وعودة المرأة لميدانها الأصيل وهو البيت، ويهاجمون الداعين إليه والداعيات أشدَّ المُهاجَمَة، ويطلقون على الدعوة - استخفافًَا بعقول الناس - (العودة إلى عصر الحريم):
والقائمون بذلك والمتحمِّسون له أحد شخصينِ:
مَفْتُون بحضارة الغرب، أعمتْهُ الفتنة عنِ اكتشاف عيوبِها، ثُمَّ لم يَعْصِمْه إيمانٌ يَشْرَحُ اللَّه معه صدره للإسلام وتشريعه.
وطالِبُ مُتْعة من غير وَجْهِهَا الحلال وطريقِها المشروع، لا يريد أن يَحْرِمَ نفسَهُ متعة الحديث والنظر، والأُنس والسمر، ولا أجاوز ذلك إلى ما وراءه.
والظلم في القضية كلها حائِقٌ بالمرأة، كانت رَيْحانَةً تُشَمُّ، فأصبحت مشكِلاً يتطلب الحلَّ، وكانت عِرْضًا يُصان، وأمانة تُحْفَظ، فأصبحت عِبْئًا يَضيق به الأبُ والأخُ، ويتحتَّم معه على المرأة أن تَعْمَلَ لِتَعِيش، وماتَتِ المُروءَةُ الَّتي كانت تدفع إلى القِيام بِحَقِّها، والغَيْرَةُ الَّتي كانتْ سَببًا في المُحَافَظة عليْها، وأصبح القانون يُلْزِمُها بالعمل في النظام الشيوعي، وأصبح الواقع يُلْزِمها به في النظام الليبرالي، وأصبحتِ التي لا تعمل لا تجد اللقمة ولا تجد الزوج، ولئِنْ كانتِ المرأةُ الَّتِي خاضَتْ مَعْرَكَةً ظَفِرَتْ فيها بحق العمل، فما أظن أن الوقت يطول قبل أن تخوض معركة أخرى أشقَّ وأصعَبَ للظفر بحق العودة للبيت.
وقد لا تكون هناك نصوص صريحة في القرآن أو السنة تَمْنَعُ المرأة من العمل في خارج البيت؛ لكَسْبِ عَيْشِها حين تدعو إلى ذلك ضرورة؛ ولكن من المؤكَّد أنَّ اتخاذ هذه القاعدةِ أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعيِّ يُخَالِفُ رُوح الشريعة، ويُناقِض كثيرًا من نصوصها، ويتعارَض مع كثير من شرائعها وحدودها تعارُضًا صريحًا؛ فهو يدعو إلى إعادة النَّظَر في التشريعات الإسلامية الَّتي تتعلَّق بقِوَامَةِ الزوج وبالميراث وبالنفقة؛ لأنها جميعًا مَبْنِيَّة على أنَّ الرجل هو الذي يعمل، وهو المكلَّف بالإنفاق، ويجب أن يكون واضحًا أن قِوامة الرجل على المرأة لا تقتضي تفضيله عليها في الدين أو الدنيا؛ ولكن هذه القِوَامَة قاعدةٌ تنظيميةٌ تستلزمها هندسةُ المجتمَع واستقرارُ الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تَسْلَمُ الحياة في مجموعها إلا بالْتِزَامِها، فهي تُشبه قِوَامة الرؤساء وأُولِي الأمر، التي لا تستلزم أن يكون الرؤساء أفضلَ من كلِّ المحكومين؛ ولكنها مع ذلك ضرورة يَستلزمها المجتمع الإنسانيُّ، ويأثم المسلم بالخروج عليها، مهما يكن من فضله على وَلِيِّ الأمر في العلم، أو في الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله.