(2) ميلاد الحياة
إن اليُتم ليس صِفة نَقص إذا كان الرجل عَظيماً، وليس جَانب ضَعف إذا كانت النَفس سامِقة تواقة، وليس إشارة عجز إذا كانت عِناية الله قد لَفته واحتَضنته ونَسجت عليه خِيوطها
- التصنيفات: السيرة النبوية -
مَضتْ الأَيام وانْصرَمت الأشهُر والَليالَي فأحَست آمنةُ بنت وهَب أنْ شَيئاً يتَحرك في دَاخلها وكأن مَولوداً يَعيش في أحشائِها، إلا أن آلام الحمل ومواجعَه لم يظهَر منها شيء، ولم يبد منها ما يدلُ على ذلك!!، ومع تَقدُم الشُهور ظَهر وكَبر الحمل في بطنِها حتى أتمْ التِسعة أشَهُر، وعِندها وضعت ذلك الطهر وتلك الشَمائل، بل وُلدت الحياة بأسرِها في أحضَان ذلك الطِفل الصَغير، الذي كانت الدُنيا تَنتظرهُ ليُغير مَسارها، ويُنير طَريقها، ويخرج مَن فيها مِن غَياهب الظُلمات إلى مَشاَعِل النُور والهِداية، كُل ذلك بإذن الحَكيم الخبير.
وعِندَما وضعَته وولدته رأت نوراً ساطعاً عظيماً ظَهر مِنها حَتى أنار قصور بُصرى والشَام، ولَقد كان لهذا الَنور فيما بعد حَقائِق سَطرها التَاريخ وشهدتْ عليها أطباق السماوات وبِقاع الأرضْ!!
دبّ هذا الطفل الصَغير على الأرضْ وجَعل يَبحث عن ثَدي يَلتقِمه كَغيره من الصِبية ليسكِن جُوعه ويُذهِب ظمأه.. ولكن تِلك الأُم التي يَملؤها الحَنان ويُحِيط بها البِشْر لم يكن فيها ما يسُد رَمق هذا الطِفل الصَغير، وفي هذه الأثَناء جَاء نِسوة من بني سَعد يلتمِسن الرُّضعاء يرضعنهم ومن بَينهن امرأةٌ تسمى حَليمة، فَلندَع القلم بيدِها لتُسطِر لنا حِكايتها وقصَتها مع ذلك الغُلام فتقول: خَرجت من بلدي مع زَوجي وابن لي صغير أرضِعُه مع نِسوة من بني سَعد نلتمس الرضعاء، وذلك في سَنةٍ شهباء لم تُبقِ لنا شيئا، فخرجت على أتان لي قَمراء، معنا شارفٌ لنا والله ما تَبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمعَ من صبينا الذي معنا من بُكائه من الجوع، ما في ثدييِ ما يُغنيه، وما في شَارفنا ما يُغذيه، ولكنا كنا نَرجو الغيَث والفَرج، فخرجت على أتاني وقد أدْمَت بالرَّكب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قَدِمنا مكة فوالله ما علمتُ منا امرأة إلا عُرِض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قِيل لها إنه يتَيم، وذلك أنا إنما كُنا نَرجو المَعروف من أبي الصبي، فكُنا نقول: يَتيم! وما عَسى أن تَصنع أمه وجَده! فَكُنا نكرهه لذلك.
فما بَقيت امرأةٌ كانت معي إلا أخَذت رضيعاً غيري، فلما أجمَعنا الانطِلاق قُلت لصَاحبي: والله إني لأكره أن أرجَع من بين صواحِبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهَبن إلى ذلك اليَتيم فآخذنّه! قال: لا عليك أن تَفعلي، عسى الله أن يَجعل لنا فيه بَركة!!
قالت: فذهَبت إليه فأخَذته، فو الله ما هو إلا أن جَعلته في حِجري فأقبل عليه ثَديي بما شَاء من اللبن، فشَرب وشَرب أخوه حتى رويا، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا بها حَافل، فحلبَ وشَربنا حتى رَوينا، فبتنا شباعاً رواء وقد نام صِبيانُنا، قال أبوه: والله يا حَليمة ما أراك إلا قد أصَبت نسَمَةً مُباركة!! ثم خَرجنا، فوالله لقد خرجَت أتاني أمام الركب قد قَطعتهن حتى ما يتَعلق بها أحد، فقدِمنا مَنازلنا من حَاضرة بني سعد بن بكر، فقدمنا على أَجدب أرض الله، فوالذي نفسي بِيده إن كانوا لَيسرحون أغنامُهم ويَسرح راعي غنمي، فَتروح غنمي بطاناً لُبَّناً حُفَّلاً، وتَروح أغنامهم جياعاً، فيقولون لِرعاتهم: ويلكم ألا تَسرحون حيث يَسرح راعي حليمة؟! فَيسرحون في الشِّعب الذي يَسرح فيه راعينا، فتروح أغنامهم جياعاً ما بها من لَبن، وتروح غنمي لُبَّناً حُفَّلاً.
وكان عليه الصلاة والسلام يَشِب في يومه شَباب الصبي في الشهر، ويَشب في الشهر شَباب الصبي في سنة، قالت: فقَدمنا على أمه فقلنا لها: ردي علينا ابنَنا فإنا نخَشى عليه وباء مكة، قالت: ونحن أضَن شيء به مما رَأينا من بَركته، قالت: فَرجعنا به فَمكثْ عِندنا شَهرين، فبينا يَلعب وأخوه جَاءه رَجُلان فشَقا بطنه، فخَرجنا نشتْد فأتينَاه وهو قائم مُنتقِع اللون، فاعتَنقهُ أبوه وأنا، ثم قال: مَالك يا بُني؟ قال: أتاني رجُلان فأضجَعاني ثم شقَا بطني فو الله ما أدري ما صنعَا، فرجعنا به، قالت: فقال أبوه: يا حَليمة ما أرى هذا الغُلام إلا قد أُصيِب، فانطلقي فلنرُده إلى أهلِه!!، فرَجعنا به إليها فقالت: ما ردكما به؟ فقلت كَفلناه وأدينَا الحق ثم تخَوفنا عليه الأحدَاث، فقالت: والله ما ذاك بكما فأَخبِراني خَبركُما!!، فما زَالت بنا حتى أخبرناهَا، قالت: فَتخوفتم عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأناً! إني حَمَلت به فلم أحْمل حملاً قط كان أخَف مِنه ولا أعظَم بركة، ثم رأيت نوراً كأنه شهَاب خَرج مني حين وَضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببُصرى! ثم وضَعته فما وقع كما يَقعُ الصُبيان، وقع واضعاً يديه بالأرض رافعاً رأسه إلى السَماء!! اترُكاه والحقَا بشأنِكما.
بأبي هو وأمُي فلَقد كان حمَله خيراً ووِلادته نوراً، وصِباه بَركة، وشبابُه أَمانة وصِدقاً، ورِسالتهُ هُدىً ورَحمة، فما من لحظة مِن لحظات حَياته وسِني عمُره إلا وَهي النُّور والخيْر والبَركَة، ثم هو مع ذلك وهو في أحشاء أُمه يموت والده فَيخرُج إلى الحياة يَتيماً، ويَرضع اليتم منذ الولادة، ثم لم يُكمل السَادسة حتى فَقد أمه، ثم يَتبع ذلك جده في الثَامنة، لَكن رعاية الله ولطفه به كانت أعظَم من عِناية ورِعاية الأُم والأب والجد!!
يا يَتيمَاً واليُتْم ضَعْفٌ وعَجْزٌ *** كَيفَ ذلّت لضَعفِك الأقويَاء
إن اليُتم ليس صِفة نَقص إذا كان الرجل عَظيماً، وليس جَانب ضَعف إذا كانت النَفس سامِقة تواقة، وليس إشارة عجز إذا كانت عِناية الله قد لَفته واحتَضنته ونَسجت عليه خِيوطها، فقد كان كَثير من الأنْبياء أيتام، وكذلك الكثير من الأئِمة والأعلام، كأمثال الشَافعي ومَالك وأحمد؛ فهذا اليُتم لم يَكُن حائِلاً بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين تَطلعَاته وهِمتِه، فها هو ابن الثَمان سنين يأتي إلى جده عبد المطلب في الحِجر وهو جَالس على مِفرش لا يجَلس عليه غَيره ولا يجَرؤ أحد على ذلك! فيَجلس على ذلك المِفرش فينتهره أعَمامه ليقيموه منه فيأتي فيقول جَده: دعوه فوالله ليكونن لابني هَذا شأناً!
وفي أحَد الأيَام وعندما كَان في صِباه في الرابعة من عُمره أَصاب قُريشاً جدبٌ وقحطٌ حتى هَزلت مواشيهم وسَغبت بطونهم، فخَرجوا يستَسقون فقال بعضهم: اِعتَمدوا اللات والعزى!، وقال آخرون: اعتمدوا لمناة الثَالثة الأُخرى!، فبينا هُم كذلك إذ أقبَل أبو طالب معه ابن أخيه ذاك الصبي فالتَزم به الكعبة، وألصَق ظَهره بها، ثم أخَذ بأصبعه فأشار به إلى السماء وما فيها قَزعة، فأقَبل السَحاب من ها هُنا وهاهُنا وأغدق واغدودَق، وانفجَر له الوادي، وأخصَب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيضُ يُستَسقَى الغَمَام بوَجهه *** ثُمال اليتَامى عِصمةٌ للأرَامِلِ
يلوذُُ به الهُلاَّك من آل هَاشِمٍ *** فهم عندَه في نِعمةٍ وفضَائلِ
ولما نَاهز الحلم وبَلغ ثنتي عَشرة سنة خرَج مع عمِّه أبي طالب في تجِارة إلى الشَام، فلما بلغ بُصرى ونَزلوا بها، وكان فيها رَاهب من أَعلم النصارى في صَومعة له يُقال له "بُحيرا"، فصَنع بحيرا لهم طعاماً ودَعاهم ولم يكن من عَادته ذلك، فقال له أحدُهم في تَعجُب! يا بحيرا ما كُنت تَصنع هذا فما شأنك؟ فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لأجل هذا سيدِ العَالمين ورسولُ ربِ العالمين! فقالوا له: وما عِلمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أقبلتم من العَقبة لم يبقَ شجرة ولا حَجر إلا خَر ساجداً، ولا يسَجدون إلا لنبي، وإنا نجَده في كتبنا؛ وسأل أبا طالب فرَده خوفاً عليه من اليهود؛ فتأمل خَطرهم على الإسلاَم حتى قبل قيَامه وقَبل الرسالة.
ثم شبَّ وكَبر وتَزوج بخديجة، وكان لا يأتي ما يأتيه قَومه من الأصنام وعِبادتها والخمر وشُربها، ثم حَصل شيء غريب وحَادث عجيب وهو!!
بقلم/ نايف بن محمد اليحيى.