(5) رحلة النور

ميزة أخرى للمسْجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسْبوع كلمة الحق مدوية مجلجِلة على لسَان خطيبه، في إنكار منكر،

  • التصنيفات: السيرة النبوية -
(5) رحلة النور

لما تكاثر عَدَد المسْلمين وازدادت أعدَاد المؤمنين، وقويَت شوكة الإسلام خصُوصاً بعد مبايعة الأنصَار وإسلامهم، أقلق ذلك قريشاً وأقض مضجعَها، كما هو ديدَن أعداء الله في كل زمن، فاجتمَع الكفر وتآمر الشرك لوأد الإسلام والقضَاء على الرسول الخاتم ونسْف الدين، فاجتمعوا في دار الندوة من أجل النظَر في شأن محمد وأتباعه.

 

حضَر اللقاء إبليس في صورة رجل جَليل من أهل نجد، فتشَاوروا في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأشَار كل واحد منهم برأي، وإبليس يرده ولا يرضَاه، إلى أن قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غُلاماً نهِداً جلداً، ثم نعطيه سيفاً صَارماً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبَائل فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ماذا تصنع؟! فيرضَون بالدية!! فقال الشيخ: لله در الفتى! هذا والله الرأي! فجمعوا أولئك الفتية، وجاء يقودهم أبو جَهل حتى وقفوا على باب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلوا يرقبونه وينظرون إليه من ثُقب الباب، وجاء الخطَر على أشد صوره وأشكاله! وتألب أولئك النفر على أكبر جريمة في التاريخ لو تمت! جريمة لو تمت لما كان في التاريخ دمشق، ولا بغداد، ولا القَاهرة، ولا قرطبة، ولا كانت للراشدين دولة! ولما قامَت الحضَارة التي قبست منها أوروبا حضارتها! ولكنا اليوم على حال لا يعلمهَا إلا الله! فله الحمد والمنة من قبل ومن بعد.

 

وهنا تتجَلى شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبات أعصَابه، وهنا يظهر نصر الله لأوليائه، حين فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب! وخرج يشق صفوفهم ويقتَحم الجموع التي جاءت تطلب دمه! فأرادوا قتله وأراد الله حيَاته، فتم ما أراد الله وروعتهم المفاجأة وأعمت أبصارهم؟ وما عادوا لأنفسهم حتى كان محمد صلى الله عليه وسلم قد مضى، وصَحوا وكأن حلماً مر بهم! وشقوا الباب ونظروا ليتَوثقوا فرأوا فراش محمد وفيه رجُل نائم!! ففركوا عيونهم وتنفسوا الصعداء..

 

أدرَكت قريش الحقيقة بعدما مضَى، وعم الصراخ مكة وضواحيها، وخرج الكفار فرسَاناً ومشَاةً يركضون خيولهم ويعدون في كل ناحية يتلفتون مذعورين، ووضعت قريش الجوائز لمن يأتي به وبصاحبه حيين أو ميتين، حتى رصدوا أضخم جائزة لمن أتى بهم وهي مائة من الإبل مقدمة من "المركَز الشركي لعِداء الرسَالة المحمَّدية"!!، فتحركت القبائل، وسار الرجال، وبحث الصغار قبل الكبَار ليحوزوا قصب السبق في هذه الجائزة، "ومشى الموكب المحمدي المكون من رسول الله صلى الله عليه وسلموا أبو بكر إلى الدنيا الواسعَة.. موكبٌ صغير! لكنه أجَل من أعظم موكب أحست بوطأته هذه الكرة التي نمشي على ظهرها، ولم تعرف موكباً أنبَل منه قصداً، وأبعدَ غايةً، وأخلص نية، وأعمَق في الأرض أثراً، موكبٌ صغير يمشى في الصحراء الساكنة، لا رَايات! ولا أعلام! ولا أبواق! ولا طبُول! ولا تصْفيق! ولا تصفير! ولا جنود عن يمين وشمَال!، ولكنّ الرمال تصفق فرحاً بالذي سيضفي عليها ثوب الخصب والنمَاء، وتزهو الجبال طرباً بالذي سيقيم عليها أعلام النصْر والعز، وتبرز من بطن الغيب جحَافل القادة والعلمَاء الذين أنبتهم مسير محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الصحَاري.

 

أشرف الموكب الشريف على المدينة، فأقبلت جموعٌ كالجمُوع التي خلفوها في مكة، ولكن تلك للشر، وهذه للخَير، وتلك تنَادي بالموت لمحمد، وهذه تنادي بالحيَاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه نقطَة التحول في التاريخ الإسلامي، كل ما قبلها ظاهره الهزائم، وما بعدها إنما هو نصر إثر نصْر" [1].

 

وها نحن أولاء الآن على أبواب المدينة، وقد خَرج الأنصار يتستقبلون محمداً صلى الله عليه وسلم ولو استَطاعوا من الحب لفرشَوا له الطريق بقطَع أكبادهم حتى يمشي عليها.

 

أقْبِل فَتلك ديَارُ طَيبَةَ تُقبِل *** تُهدِيك من أشْوَاقهَا مَا تَحملُ

القَومُ مُذ فَارقتَ مَكةَ أعْينٌ *** تأبَى الكَرَى وجَوانحٌ تتَمَلمَلُ

 

وهَاهم الناس يسألون: أيهم رسُول الله؟ أيهم هو؟ لا يعرفونه! لأنه لم يكن ملكاً، بل كان عبداً لله متواضعَاً، يلبس ما يلبَس الناس، ويأكل ما يأكلون، ويجوع إن جاعوا، ويشبَع إن شَبعوا.

 

ولقد كان في أصحابه الأغنيَاء الموسِرون، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم أحب أن يعيش بسيطاً، وأن يموت عزيزاً!!

 

لبَسَ المرَقَّع وهُو قائِدُ أمَّةٍ *** جَبَت الكُنُوزَ وحَصَّلتْ أغْلالهَا

 

"لقَد مشى محمد صلى الله عليه وسلم من الغار إلى مَكة، ثم مشَى من مكة إلى المدينة، ثم مشَى أصحابه وأتباعه يحمِلون العدل والعلم والإنسَانية إلى الشَّام، ومشوا إلى العراق، ومشَوا إلى مصر، وبلغوا أقصَى المشْرق وأقصَى المغرب، ونصبوا راية الإسلام على روابي الصين، وعلى بطَاح فرنسَا، ومشوا شمالاً وجنوباً حتى ملؤوا الأرض رجالاً وعدلاً ونوراً وفضائل وأمجَاداً، وكانوا خلاصَة البشر، فأحنوا الرؤوس لذلك الرجُل الذي دخل المدينة لا يحُف به موكب، ولا يحرُسه جند، ولا تلوح فوق رأسه راية، ولا يزين صدره وسَام، ولا يلمع على هامته تاج، ولا يقرع عند رأسه طبل، ولكن تحف به الملائكة، وترفرف فوقه رايات الإيمان والقرآن، ويلمَع على جبينه نور النبوة، ويحرسُه الله سبحانه وتعالى" [2].

 

دخل صلى الله عليه وسلم المدينة فصار النسَاء والصبيان يركضون ويهتفون: الله أكبر! الله أكبر! جاء محمد جاء رسول الله!! وثار بنو النجار إليه وأتوه وهم متقلدو أسلحتهم، فجعل لا يمر بحي من أحياء الأنصَار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العَدد و العدة، والعزة والمنعَة، فيقول: دعوها -يقصد ناقته- فإنها مأمُورة! فلما مر ببني النجار خرج فتيات صغيرات ينشدن واصفَات حبهن ومحبة جوار النبي صلى الله عليه وسلم لهم فيقلن:

 

نَحْن جَوارٍ من بَني النَجَّار *** يَا حَبَّذَا مُحمَّدٌ من جَارِ

 

فوقف عندهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في تواضُع وحنو: والله إني لأحبكن وأحب جِوَاركُن! ثم مشت به ناقته حتى بركت به في مكان مسجده، فأتى أبو أيوب الأنصاري فأخذ متَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله إلى بيته فكان أول عملٍ عمله هو بناء مسْجده وغرف أزواجه، راسماً في أذهان أصحابه عِظَم العبادة في الإسْلام، جاعلاً المسجد منبعَاً روحياً صافياً، واجتماعياً راقياً تقوى فيه أواصر المحبة بين المسلمين وتزداد، فصلاة الجماعة، والجمعة، والعيدين، مظهرٌ قوي من مظاهر اجتمَاع المسلمين، ووحدة كلمتهم وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى! لا جرم إن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، ففيه تُوحد الصفوف، وتُهذب النفوس، وتُوقظ القلوب والعقول، وتُحل المشاكل، وتظهر فيه قوة المسلمين وتماسكهم، "ولقد أثبت تاريخ المساجد في الإسلام أنّه انطلقت منه جحافل الجيوش الإسلامية لعمارة الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت! وهل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد وأبو عبيدة، وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسَة المحمدية التي كان مقَرها المسجِد النبوي!!

 

وميزة أخرى للمسْجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسْبوع كلمة الحق مدوية مجلجِلة على لسَان خطيبه، في إنكار منكر، أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير، أو إيقاظ من غفلة، ويوم يعتلي منَابرها ويؤم محاريبها دعَاة أشداء في الحق، علمَاء بالشريعة، مخلصُون لله ورسوله، ناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم، يعود للمسجد في مجتمعنا الإسلامي مكان الصدارة، ويعود ليعمل عمله في تربية الرجال، وإخراج الأبطال، وإصلاح الفساد، ومحاربة المنكر، وبناء المجتمع على أساس من تقوى الله ورضوانه، وذاك عندما تحتل هذه الطليعَة الطاهرة من شبابنا المؤمن العالمة بدين الله، المتَخَلقة بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم منابره وأرجَاءه" [3].

 

بدأ العَمل بعمَارة المسجد والحُجُرات وكان الصحَابة كاليَد الواحدة، وكالساعد للمرفق يشده ويؤازره، وكان في مقَدمة العاملين في هذا البناء هو محمد – صَلوات الله وسَلامه عَليه – وهو يرتجز:

 

اللهُم لا عَيشَ إلا عَيش الآخِرة *** فَاغفِر للأنصَار والمهَاجِرَة

 

والصحابة يعملون ويرتجزون فيقولون:

 لئن قَعَدْنا والنَّبي يعمَل.

لَذَاك منَّا العَمَل المضَللُ. [4]

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1] سيد رجال التاريخ (ص62).

 [2] سيد رجال التاريخ (ص82).

 [3] السيرة النبوية لمصطفى السباعي (ص85).

 [4] أخرجه البخاري (6051) مسلم (1804).