(9) مقام الدعوة
إنه – صَلَوات الله وسَلامه عليه – لم يترك دعوَة هذه الأمة حتى وهو في مرَض الموت فقد كان يقول: "قاتَل الله اليَهود والنصَارى، اتخذوا قبُور أنبيَائهم مسَاجِد" يحذر من صنيعِهم
- التصنيفات: السيرة النبوية -
إذا أرَدت أن تعيش في ميدَان السبَاق والتضْحيَة، وأحببْت أن تشَاهد همَّاً رسَخ في القَلب، وتغَلغَل في الرُّوح، وسَرى في الأعمَاق، وتشَربه الجَسَد، وجَرى مجْرى الدَّم، وتخَلل شُريان العُروق، وقَام مقَام الطعَام والشَّراب، فاقرأ وقلِّب صفحَات سِيرة الحبيْب صلى الله عليه وسلم ودعْوته، وانظر إلى حيَاة حفَلَت بالصدْق، وامتَلأَت بالعَدل، وازدَهَرت بالبَذل، وتجَمَّلت بالكَرم، وأينَعت بالجُود، واكتَمَلت بهدَاية البَشَرية
تبْني الفَضَائل أبرَاجَاً مُشَيَّدةً *** نصْب الخِيام التي من أََروَع الخيَمِ
إذا مُلوك الوَرَى صَفوا مَوَائدَهَم *** عَلَى شَهِي من الأكْلات وَالأُدُمِ
صَفَفْتَ مَائدَةً للرُّوح مَطعَمُها *** عَذبٌ من الوَحي أو عَذْب من الكَلمِ
إن كَان أحبَبْت بعْد الله مِثلَك في *** بَدو وَحَضْر ومن عُربٍ ومن عَجَمِ
فلا اشتَفَى ناظِري من مَنظَر حَسَن *** ولا تَفوَّه بالقَول السَّديْد فَمِ
لقد استَغَل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل لحظَة من لحَظَاته، وكُل فرصَة في حيَاته، لدَلالَة الأمة على الخَير، ودَعْوة الناس إلى الرُّشْد، وهدَاية البشَرية إلى النُّور، "فقد دعَا في جميع الأمَاكن والأحوَال والأزمَان، ودَعَا جميْع أصنَاف النَّاس، واستخدَم جميع الأسَاليب المشْروعَة.
دعَا فوق الجبَل، وفي المسْجِد، وفي الطَّريق، والسُّوق، وفي منَازل الناس بالموَاسم، وحَتى في المقْبَرة، ودعَا في الحَضَر والسَّفَر، وفي الأمْن والقتَال، في صحَّته ومَرضِه، وحينمَا كان يزُور أو يزَار. دعَا من أحبُّوه، ومن أبغضُوه وآذَوه، ومن استمَعوا إلى دعْوته ومن أعرضُوا عنها. وبعَث الرسَائل والرسُل إلى الملُوك والرؤسَاء، ممن لم يتمَكن من الذهَاب إليهم بنفسه" [1].
وتأمَّل كيف كَان يستغِل كل فرصَة ولحظَة وحدَث، كل ذلك تبليغَا لرسَالة الله، ورحمَة ورأفَة في الأمة أن تهْوى في شفِير جهنَّم، فهذا صبي يهُودي كان يخدِم النبي صلى الله عليه وسلم فمَرض ذاتَ مرَّة، فأتاه النبي يعُوده، فقعَد عند رأسِه وإذا هو في لحظَات الاحتِضَار وآخر سَاعَات الدُّنيا، فقال له: "أسْلِم" فنظَر الصبي إلى أبيه وهو عندَه فقال له: أطِع أبا القَاسم، فأسْلم، ثم مات فخَرج النبي صلى الله عليه وسلم مسْتبشِراً فرحاً وكأنما حيِزَت له الدنيَا بحذافيْرها وهو يقول: "الحمْدُ لله الذي أنقَذَه بي من النَّار" [2].
فانظُر كيف أنه اجتمَعت فيه خصْلتَان تجعلان المرْء لا يعبؤ به، الصغَر واليهُودية، إضافة إلى كونه على فراش الموت فلو أسلم لما انتفع به المسلمون بشيء، ومع ذلك لم يزدَري ذلك – عليه الصَّلاة والسَّلام – ولم يحتَقره بل حَاول حتى شَرَح الله صدرَه، ليعلم النَّاس أن هذا الدين قَام على طلب الهدى والخير لهم، لا لمصالح شخصية، أو مطامع سياسيَّة.
وفي موقف مشَابه يدخُل رسول الله على عمِّه أبي طَالب الذي آزرَه ونصَره، وهو في سَكَرات الموْت فلم يَيأس من دعوَته، مع أنه عَاش يدعُوه عشرَ سنين فلم يسْلم، فوقف على رأسِه وهو يقوْل: "يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال رأسُ الشرك أبو جهْل وعبد الله بن أبي أُمية دعَاة إبليس على أبواب جَهنَّم:يا أبا طالب أترغَب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسُول الله يعرضُها عليه، ويعودَان بتلك المقَالة حتى كان آخرَ ما قال: هُو على ملة عبد المطلب. ثم أنزَل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56] [3] ولم يكُن – عليه الصَّلاة والسَّلام – يحقِر أحداً أو يبْخل في علم على أحَد، ففي أحَد الأيام كان يسيْر على حمَارٍ له وقد أردَف خلفه عبد الله بن عبَّاس وكان غلامَا صغيرَا، فقال: "يا غُلام إني أعلمك كلمَات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سَألت فاسأَل الله وإذا استَعَنت فاستَعن بالله، واعلَم أن الأمة لو اجتمعُوا على أن ينفَعوك لم ينفعُوك إلا بشئٍ قد كتبه الله لَك، ولوا اجتَمعوا على أن يضُروك، لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله علَيك، رفعَت الأقلام وجفَّت الصُّحُف" [4].
وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحَدث عن دعوته فيقول: لبِث رسُول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنِين يتبع الناس في منَازلهم في الموَاسم ومِجنَّة وعُكَاظ ومنازلهم في منى فيقول: "من يؤويني؟ ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة" فلا يجِد أحدا ينصُره ولا يؤويه، حتى إن الرجُل يرحَل من مصْر أو اليمَن إلى ذي رحمه، فيأتيه قومُه فيقولون له: احذَر غُلام قرَيش لا يفتنَنك [5].
وقال رجُل من كنَانة: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسُوق ذي المجَاز يتخللها يقول: "يا أيها النَّاس قولوا: لا إلَه إلا الله تفلحُوا" وأبو جَهل يحْثي عليه التُّراب ويقول: لا يغْوِيْكم هذا عن دِينِكم، فإنما يُريْد لتترُكوا آلهتَكم، وتتركوا اللات والعُزَّى، وما يلتفِت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [6].
وفي أحَد أسفَاره وهو يمشِي أقبَل عليه أعرابي فلما دنا منه قال له: "أين تُريد؟" فقال الأعرابي: إلى أهْلي. فقال: "هل لك إلى خَير؟" قال: وما هُو؟ قال: "تشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شَريك له، وأن مُحمَّدا عبده ورسُوله" فقال الأعرابي: هل من شَاهد على ما تقول؟ قال: "نعم هذه الشَّجَرة" فدعاها صلى الله عليه وسلم وهي على شَاطئ الوادي، فأقبَلت تخُد الأرض خدَّاً، فقامَت بين يديه، فاستَشهدَها ثلاثَا فشهدَت أنه كمَا قال، ثم إنها رجَعَت إلى منبتِها، فرجع الأعرابي إلى قومِه فقال: إن يتبعُوني أتيتُك بهم، وإلا رجَعت إليك وكنت معَك [7].
بل بلَغ من حرصِه – عليه الصلاة والسلام – أنه كان يرجُوا هداية أجيَال من آذَوه أشَد الأذَى وطردُوه وسخِروا منه، فعندما رجَع مردودَا من الطائف أرسَل الله له مَلك الجبَال فخَيره إن شَاء أن يطبِق عليهم الأخشبين جبَلي مكة فيموتوا فقال علَيه الصَّلاة والسَّلام: " بل أسْتَأني بهم لعَل الله أن يُخرج من أصْلابهم من يعبُد الله [8].
ولما تُوفي أحَد أصحابه ووضعوه ليُلحدوه في قبره، انتهَز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصَة، ولحظَة التأثر من أصحَابه، وفرصَة اجتمَاعهم، فوعَظهم موعظة جَليلَة عظيمَة وعلمهم فيها ما يحصل للميت من نَزْع الرُّوح وحضُور الملائكة، وصعُود الرُّوح إلى السَّماء، وماذا يحصُل له بعد مماته في قبره وسؤَال الملكَين له [9].
بل إنه – صَلَوات الله وسَلامه عليه – لم يترك دعوَة هذه الأمة حتى وهو في مرَض الموت فقد كان يقول: "قاتَل الله اليَهود والنصَارى، اتخذوا قبُور أنبيَائهم مسَاجِد" يحذر من صنيعِهم [10]، بل الأعظَم من ذلك أنه كان وهو يجُود بنفْسه، وفي غَرغَرة حُلقُومه، يدعو الأمة فيقُول: "الصَّلاة الصَّلاة، وما مَلكَت أيمانُكم" [11].
لتحْمِل هذه الرسَالة الخَالِدَة على أكتَافها، ولتخْرج العبَاد من عبَادة العبَاد إلى عبَادة الله وحدَه، ولتكون مشْعَلاً ونبراسَاً يضئ في ديَاجي ظُلمَات الجهْل والشِّرك.
وكان يراعي نفسياتِ الآخرين وجوانب التَّأثير فيهم كلٌ بما يناسبه، ففي صلح الحديبية أرسلت قرَيش رجلاً من بني كنَانَة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أشرف قال صلى الله عليه وسلم: "هَذَا فلَان، وَهُوَ من قوم يعظمون الْبدن، فابعثوها لَهُ" فَبعثت لَهُ، واستقبله النَّاس يلبون. فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا يَنْبَغِي لهَؤُلَاء أَن يصدوا عَن الْبَيْت، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابه قَالَ: رَأَيْت الْبدن قد قلدت وأشعرت، فَمَا أرى أَن يصدوا عَن الْبَيْت.
ولما أسلم أبو سُفيان قال العَباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: "نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ".
وعلم تأثُّر سادة القَبائل بالمال فأعطاهم يتألفُهم ليقوى إيمَانهم، وليؤثروا فيمن تحتَ أيديْهم من العَامة.
وهكذا كان يكسب النَّاس بما يرغبونه ويحبونه.
فعلى كل مؤمِن أن يسيْر على خُطا حَبيبه، ويسْلك منهَج نبيه وقدوَته، ويرفَع شعَار:
هي دعوَة لله أقبَل فجْرهَا *** بالنُّور يخفِق مُشْرقَا وضَّاءا
ضَربَت بأعمَاق النفُوس جُذورُها *** وسَمَت منَاراً للهُدى ولوَاءَا
وسيُزهر الحُلم الذي نصْبو اله *** أرضَاً تعانقُ في الوجُودِ سمَاءَا
ياللعزائِم حين تنهَض حرَّةً *** وتُحطِّم النَّير البغِيْض هَبَاءَا
تمشي علَى هَام النجُوم عَزيزَةً *** تذكي النُّفوس تَوثُّباً ومضَاءَا
"لقد فرغ رسُول الله صلى الله عليه وسلم من أمْر بطنِه، فما يفَكر أجَاع في سبيْل الدعوَة أم شَبع، وفرَغ من أمر جِلدِه فما يبُالي ألبِس أكسَية الصُّوف أم ارتدَى برُود اليمن، وفرَغ من أمر الجَاه فما يعيقُه أن يُلقى في طريقه الشَّوك، ولا يزدَهيْه أن يفرَش بالوروْد، لم يفَكر في أن يستَغِل دعوته لينَال زعَامَة، ولو أرادَها لكانت طَوع يدَيه، أو ليَجمَع مَالا، أو ليَقتني ضَيعة، أو ليمُد يَده إلى أتبَاعه ليقبلوها ويملؤوها فيَعيش معظمَاً" [12] مبجلاً مرفهاً مخدوماً، ولكن جاهد وناضَل وحمَل الأذَى، ولم يميِّز نفسه عن أصغَر واحِد من أتباعه في مطعَم أو ملبَس ولا متعةٍ ولا جاه , بهذه الحكمَة وبهذا التدبيْر أرسَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوَاعِد مجتمع جَديْد، كانت صورتُه الظاهرَة بياناً وآثاراً للمعاني التي كان يتمتَّع بها أولئك الأمجَاد، وكان يتعَهدهم بالتعليْم والتربيَة، وتزكيَة النفُوس، والحث على مكَارم الأخْلاق، ويؤدبهم بآدَاب الوُد والإخَاء والمجْد والشرَف والعبَادة والطاعَة، سأله رجُل: أي الإسلام خَير؟ فقال: "تطعم الطعام وتقرؤ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" [13].
كما كان يبين لهم ما في العبَادَات من الفضَائل والأجْر والثوَاب عنْدَ الله، وكَان يربطهُم بالوحْي النازِل من السَّماء ربطاً موثقاً، فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه، لتَكون هذه الدرَاسة إشعاراً بما عليهم من حقُوق الدعوَة وتبعَات الرسَالة، فضْلا عن ضرورَة الفَهم والتَّدبير، وهكَذا هذَّب تفكيرَهم، ورفع معنوياتهِم، وأيقَظ مواهبَهم، وزودَهم بأعلَى القيَم والأقدَار، حتى وصَلوا إلى أعلَى قمَّة من الكمَال عرفت في تاريْخ البشَر بعد الأنبياء.
بقلم/ نايف بن محمد اليحيى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سيد رجال التاريخ (ص15).
[2] أخرجه البخاري (5333).
[3] أخرجه البخاري (1294) مسلم (24).
[4] أخرجه الترمذي (2516) وصححه.
[5] أخرجه أحمد (14694)، وصححه البوصيري. إتحاف الخيرة المهرة (7/352).
[6] أخرجه أحمد (16654)، وصححه ابن الملقن. البدر المنير (1/680).
[7] أخرجه ابن حبان (6505)، والدارمي (6)، صححه البوصيري، وجود إسناده ابن كثير. إتحاف الخيرة المهرة (7/106)، البداية والنهاية (6/130).
[8] أخرجه البخاري (3059) مسلم (1795 ).
[9] أخرجه أحمد (18557)، وصححه البيهقي، في شعب الإيمان (1/300).
[10] أخرجه البخاري (1265) مسلم (531).
[11] أخرجه أحمد (44 / 84)، وصححه البيهقي في دلائل النبوة (7/205)، وجوده ابن الملقن في شرحه للبخاري (21/645).
[12] سيد رجال التاريخ (ص81).
[13] أخرجه البخاري (5882) مسلم (39).