مقام الشفاعة (15)

هذا هو المقَام المحمُود الذي وعدَه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: { {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

  • التصنيفات: السيرة النبوية -
مقام الشفاعة (15)

لقَد كانَت جميْع المقَامَات التي مَر ذكرُها، وأجَلت النظَر فيهَا، وتنَقلت في بسَاتينها، تحْكي وتبسُط ما بَوأه الله من منزِلة، وشَرفَه من مكانَة وأعلاه من مرتَبة في الدنيَا، وأما هذا المقَام فيصَور ذلك اليَوم الذي ترسَم فيه لوحَات الشَّرف، وتقَسم فيه تيجَان الوَقَار، وترفَع فيه لأقوَام مرَاسم العِز، ويعْلو أنَاس فيه على منَابر النُّور، وتنثَر فيه الأعطيَات والهبَات والرحمَات والنفَحَات، هذا لمن أحَب الله ورسوله، وأطَاع الله ورسُوله، وأما من أتبَع نفسَه هواهَا وأمضَى حيَاته في اللهْو والغَفلة والمعصيَة، فتقَام له الزَّبانية، وتسَعر له النار، ويقَام في الشَّمْس حتى يلجمَه العَرق، ويصَب عليه تبكيت التقْرِيْع والتَّوبيخ، ويُكوى بلهَب الذُّل والعَار، ففي ذلك الموطِن وذاك المقَام يذِل أقوَام ويعِز آخَرين، ويرفَع أُناس، ويُذل غيرهم، لأنه لا عَزيز إلا من أََعَزه الله، ولا شَريف إلا من رَفَعَه الله، ومن يهن الله فمَاله من مكْرم.

 

وفي تلك اللحَظَات، وعند ذلك الجَمع، تنقَطع جميع العَلائق والأنسَاب والأسبَاب، فلا أحَد يتَكلم إلا بإذن المالك الجبار، ولا يشفَع إلا بأمره، وتنقَطِع عنده موَازين الأرْض، ومقَاييس الدنيَا، فلا آمر ولا ناهي، ولا مُدبر، ولا مُصَرف، ولا قَادر ولا قَاهر، ولا أمِير ولا مَلك، ولا سَيِّد ولا مُطَاع، إلا الملك الوَاحد الصمد، ولما أن تدْرك عظَمَة ذلك الموقف وخطُورَته، وتعرِف معَايير العُلو والسُّمو فيه، فاعلم أن لنَبينا أجَل وأعظَم مقَام فيه، وأرفَع مرتبَةٍ ومنزلةٍ، فلا أحَد من الخَلائق يدَانيه ولا يضَاهيه...

 

يا مَن له عزُّ الشَّفاعة وحدَه *** وهو المُنَزه مالَه شُفَعَاءُ

عَرش القيَامة أنت تَحْت لوَائه *** والحَوض أنتَ حيَاله السَّقاءُ

تروي وتَسْقي الصَّالحين ثَوابهم *** والصَّالحَات ذخَائرٌ وجَزَاءُ

أنت الذي نَظَم البريَّة دينُه *** ماذا يقُول وينْظِم الشُّعَراءُ

 

واستَمع إليه وهو يحَدث عن ذلك المقَام: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ - يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك وعلمك  أسماء كل شئ اشفع لنا إلى ربك! ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته،، نفسي نفسي نفسي!   اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك! ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل  قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة  دعوتها  على قومي، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله، وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك! ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت  كذبت  ثلاث  كذبات، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون يا موسى!  أنت رسول الله فضلك الله برسالته، وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك! ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إني ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى بن مريم، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم  وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك! ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله –ولم يذكر ذنبا – نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع  ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده  وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع. ففي هذه الحَال، وعند هذا المقَام، الخَلائق كلهَا مشْرئبَّة تنظُر في هذا الموقِف!! وتتَأمل هذا المشهَد!! ورب العِزَّة يفتح أبوَاب الإجَابة أمَام هذه الدعَوَات التي يبتَهل فيها سيد الثقَلين!! فما تَظن أن تكون هذه الدعَوَات؟! وما ذَاك الطلَب الذي سيطلبه؟ ولأجْل من سَيشفَع ذاك اللسَان؟! إن أول كلمَة ينطق بها ويتفوه بهَا لسانه هي: "أمتي يا رب! أمتي يا رب! " فلم ينس فداً له نفسي ومالي وأهلِي في ذلك الموقف العَظيم، والجَمْع الهَائل، والكَرب الشَّديد، والمقَام المذهِل، أمته – عليه أزكى صَلاةٍ وسَلام – بل كانت أول دَعْوة وشفَاعةٍ قالهَا وسأل الله إجابتها، هي الدعوة لأمته، فهَل رأيت حُباً ورحمَةً وصدقَاً أعظَم وأجَل من هذا؟! فيَقول عند ذلك ربُّ العِزة والجَلال: " يا محمَّد! أدخل من أمتك من لا حسَاب عليهم من البَاب الأيمَن من أبوَاب الجنَّة، وهم شُركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبوَاب " ثم قال: " والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وبُصرى " [1].

 

وهذا هو المقَام المحمُود الذي وعدَه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: { {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.