لقب صاحب القرآن
يتنقل الصاحب مع صاحبه يقف مع آية من آياته أو قصة من قصصه أو مثل من أمثاله الجامعة المانعة يستطرد حول المعانى ويطوف فى ظلال المشاعر ويرفل فى نعيم المبادىء التى تبث من خلال مجاورة هذا الصاحب العظيم.
- التصنيفات: التصنيف العام - القرآن وعلومه - الحث على الطاعات -
قد يزامل المرء فى حياته أناسا كثرا، وقد يتعارف على أناس أكثر، وقد تتسع دائرة معارفه لدرجة لا تمكنه من تذكر أسماء كثير منهم حين يقابلهم لكن قليلا منهم من يستحق أن يقول عنه المرء: صاحبه.
صاحبك هو هذا الشخص القريب من قلبك، هو ذلك الإنسان الذي تعرفه جيدا.. تعرف صفاته ومميزاته... تدرك خصائصه وطباعه... تجمع بينكما ذكريات وأحداث وتشتركان في هموم وشجون ولحظات سعيدة وأحزان.
صاحبك هو ذلك الذي تكن له مشاعر وتحمل له في قلبك مودة صادقة وامتنان، إذا ذكر أمامك سرعان ما تعتمل فى صدرك هذه المشاعر وتتأتى إلى ذهنك تلك الخصائص وتقفز إلى مخيلتك بعض من تلك الذكريات، إن غاب عنك استوحشت وإن طال فراقكما إليه اشتقت وإن جاء موعد اللقاء به سر قلبك وفرحت تلك هي الصحبة وذاك هو الصاحب الحقيقي، والإنسان بطبعه مخلوق اجتماعي ودود لابد له من أصحاب في هذه الدنيا.
هذا هو الأصل:
صحيح قد توجد لهذا الأصل بعض الاستثناءات كأن يوجد شخص منطوٍ على نفسه أو نافر منفر لا يألف الخلق ولا يألفونه لكن في الغالب لا يخلو إنسان من مودة أو ألفة تجمع بينه وبين إنسان آخر أو مجموعة من البشر ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف كما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتنوع العلاقات الإنسانية تنوعا كبيرا وتتباين التفاعلات بين البشر تباينا واسعا ولا يكاد يخلو امرؤ من العديد من تلك العلاقات والمعاملات المختلفة.
فما بين معرفة سطحية وعلاقات عابرة قصيرة وزمالات عملية وبين صداقات حميمة وترابطات وثيقة تجمع بين المرء ومن حوله - يظهر ذلك التباين والتعدد بشكل واضح، ويظهر الصاحب الحقيقي.
فكر لوهلة وسل نفسك:
كم من معارفك تستطيع أن تصفه بذلك الوصف وأن تنطبق عليه معاني تلك الكلمة؟ كلمة صاحب.
الكلمة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عنوانا ووصفا لعلاقتك بما أنزل عليه من ربه القرآن «اقْرَؤوا القرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه» (رواه مسلم).
«اقرَؤوا الزَّهرَاوَين: البقرةَ وسورةَ آلِ عمرانَ. فإنهما تأتِيان يومَ القيامةِ كأنهما غَمامتانِ. أو كأنهما غَيايتانِ. أو كأنهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ. تُحاجّان عن أصحابهما» (رواه مسلم).
«يجيءُ صاحبُ القرآنِ يومَ القيامةِ فيقولُ القرآنُ يا ربِّ حَلِّه فيلبسُ تاجَ الكرامةِ ثمَّ يقولُ يا ربِّ زِدْه فيلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ ثمَّ يقولُ يا ربِّ ارضَ عنه فيرضَى عنه فيُقالُ له اقرأْ وارقَ ويزدادُ بكلِّ آيةٍ حسنة» (رواه المنذري في الترغيب والترهيب وصححه الألباني).
«إِنَّ القرآنَ يَلْقَى صاحبَهُ يومَ القيامةِ حينَ يَنْشَقُّ عنهُ قَبْرُهُ كَالرجلِ الشَّاحِبِ يقولُ: هل تَعْرِفُنِي؟ فيقولُ لهُ: ما أَعْرِفُكَ، فيقولُ: أنا صاحِبُكَ القرآنُ، الذي أَظْمَأْتُكَ في الهَوَاجِرِ، وأَسْهَرْتُ لَيْلكَ، وإِنَّ كلَّ تَاجِرٍ من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة» (السلسلة الصحيحة).
«إنما مَثَلُ صاحبِ القرآنِ كمثلِ الإبلِ المعَقَّلَةِ إن عاهد عليها أمسكَها وإن أطلقها ذهبَت وفي رواية: وإذا قام صاحبُ القرآنِ فقرأه بالليلِ والنهارِ ذكرَه وإذا لم يَقُمْ به نسِيَه» (صحيح مسلم).
«يقالُ لِصاحِبِ القرآنِ: اقرأْ وارْتَقِ، ورَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدنيا، فإنَّ مَنْزِلَتَكَ عندَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأُ بِها» (السلسلة الصحيحة).
تأمل اللفظ...
«يقال لصاحب القرآن»
«شفيعا لأصحابه»
«تحاجان عن صاحبهما»
«أنا صاحبك القرآن»
كلمات ذات أصل مشترك تكررت في تلك الأحاديث التي ذكرتها في السطور السابقة ، صاحب، أصحابه، صاحبهما، صاحبك إنها الصحبة إذاً!!
لقد اختار النبى صلى الله عليه و سلم تلك الكلمة تحديدا -وهو الذي أوتي جوامع الكلم- ليصف بها ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بينك وبين القرآن... علاقة صحبة!
صحبة بكل ما تشمله الكلمة من معان وخصائص وأركان، صحبة كلية للقرآن بأكمله فلا يكاد يفارقك ولا ترتاح ولا تأنس إلا معه وتسعى جاهدا لاقتناص كل وقت تمضيه برفقته، وصحبة جزئية ومعرفة موضوعية لسوره المختلفة.
حينَ ولَّى بعض الصحابة مدبرينَ يوم حنين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العبَّاسَ فَناداهم: يا أصحابَ الشَّجرةِ -يعني أَهْلَ بيعةِ الرِّضوانِ- وفي روايةٍ: ناداهم يا أصحابَ سورة البقرةِ ينشِّطَهُم بذلِكَ فجعلوا يُقبِلونَ من كلِّ وجهٍ" صححه العلامة أحمد شاكر في مقدمة عمدة التفاسير.
تأمل قوله يا أصحاب سورة البقرة؛ لقد شرفهم بهذا النسب بعد نسب لتلك البيعة العظيمة -بيعة الرضوان- وياله من شرف أن ينسب المرء لسورة من سور القرآن وأن يلقب بأنه من أصحابها أي درجة من المعرفة والقرب تلك التي بلغها ليصل إلى هذا المقام - مقام الصحبة.
الصحبة الشاملة والنظرة الموضوعية العامة التي تربط بينه وبين كل سورة من سور القرآن والتي تعد توطئة وتمهيدا للمعرفة العميقة التفصيلية بمعاني آياتها وإدراك أحكامها وتوجيهاتها.
فهذه السورة لها في قلبه وقع مألوف محبب وتلك السورة يجد لها في نفسه حنينا واشتياقا أما السورة الثالثة فيخفق قلبه رهبة عند تدبر آياتها وعن تلك السورة الرابعة التي يسارع لقراءتها حين تدلهم به الخطوب ويبتغي تثبيتا لفؤاده ومواساة لجنانه فحدث ولا حرج أما هذه الآية فعلى قصرها إلا أن روحه تسمو وتهفو رجاء كلما تليت عليه.
وهكذا يتنقل الصاحب مع صاحبه يقف مع آية من آياته أو قصة من قصصه أو مثل من أمثاله الجامعة المانعة يستطرد حول المعانى ويطوف فى ظلال المشاعر ويرفل فى نعيم المبادىء التى تبث من خلال مجاورة هذا الصاحب العظيم.
يعيش مع أبطال قصصه وتتوطد علاقته بهم فيحزن لحزنهم و تتهلل أساريره لفرحهم و يواجه معهم الظالمين والطغاة ويصدع معهم بكلمات الحق التى قذفوها فى صدر الباطل.
يبحر مع نوح ويسمو بروحه في ملكوت السماء متدبرا مع إبراهيم، يصبر مع أيوب، ويسبح مع داوود ويصمد مع الغلام فى وجه صاحب الأخدود، يتزلزل فؤاده مع المؤمنين فى مواجهة الأحزاب يوم الزلزال الشديد ثم ينشرح صدره وهو يطالع نبأ النصر المجيد والرعب الذي تصدعت به نفوس المشركين.
يتنقل من مشهد إلى آخر ومن قصة إلى أخرى ويدور مع المعانى والأمثال حيث دارت.
كذلك يجد صاحب القرآن العارف بآياته المحب لكلماته وقعا ومشاعر وآثارا كلما تفاعل مع سوره ومر بأجزائه وأحزابه، ويكأنه يسمع قعقات المعركة وصليل السيوف مختلطا بصهيل الخيل وهو يصحب سورة الأنفال ثم يرتجف قلبه غضبا لربه وهو يطالع جرائم المنافقين في سورة التوبة.
يوجل قلبه تعظيما وإجلالا لربه إذا رتل سورة الأنعام ويذوب فؤاده شوقا لمولاه المنان وهو يتلو سورة الرحمن مجيبا لسؤالها المتكرر وصائحا من أعماق قلبه وإن لم يسمع الخلق بلسانه: لا بأي من آلائك نكذب ربنا ولك الحمد.
يزداد حمده وشكره وامتنانه وهو يطالع نعم الله وآلائه في سورة النحل ثم ترتعد نفسه خوفا وطمعا وهو يتلو سورة الرعد.
ينبهر بعدل الشريعة وإحكام إنصافها وهو يقرأ سورة النساء ثم يعاهد الله على الوفاء بعقود سورة المائدة ومواثيقها وتعلو همته ويزداد يقينه وهو يتأمل تلك المفاصلة الخالدة بين أئمة الحق وسدنة الباطل في سورة إبراهيم ويعجب لذلك اللطف الجميل في سورة يوسف ويزداد انبهارا بفتوحات الله تفرج الكروب عن موسى في سورة القصص ثم يلين قلبه حين يغمره ضياء سورة النور ويذرف الدمعات الخاشعات وهو يتأمل شكوى حبيبه في سورة الفرقان {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}.
هل وجدنا مثل ذلك في علاقتنا بكتاب ربنا؟
هل هي علاقة وثيقة تستحق بالفعل أن يطلق عليها وصف الصحبة الراسخة والأنس الجميل؟
هل صاحبنا القرآن؟
هل صاحبنا سوره أو حتى بعض سوره؟
بل هل صاحبنا سورة واحدة منه؟
هل نستحق أن يقال لنا يوم نرجع إلى الله هلموا يا أصحاب القرآن؟
ما أريد بتلك السؤالات السابقة ومن قبلها ذلكم العرض الموجز لنماذج من الأنس بالقرآن والتعرف المجمل على سوره أن أضع تصورا مثاليا يصعب الوصول إليه أو يغرس الإحباط في نفس من لم يجد في نفسه تلك الأصداء والتفاعلات ولكنه مجرد لفت لانتباهك عزيزي القارىء.
لفت لانتباهك أن ثمة آفاق أخرى للتعامل مع كتاب الله ليس على أنه فقط مصدر لجلب الحسنات وجمع المثوبات، أكرم بها من قيمة لكنها تظل فرعا عن الأصل، والأصل أن يصحبك القرآن في سائر أحوالك، وأن يطبع بأثره على حياتك وسلوكك وأفكارك كما يفعل الصاحب مع صاحبه.
الأصل أن يغيرك ويصلحك ويوجهك ويضبط بوصلة واقعك ثم تأتي الهدية من بعد ذلك.
إنها إذاً دعوة لتغيير النظرة النمطية للقرآن وعدم الانشغال بالهدية عن الوصية والانتباه إلى طبيعة العلاقة التي تجمع بين المسلم وبين آيات ربه... علاقة الصحبة.
أن تكون صاحبا للقرآن وأن يكون صاحبك_القرآن