حكم التعامل بالعملة الإلكترونية المشفرة: (البتكوين) وأخواتها
هيثم الحداد
لقد بحَث جمْعٌ مِن العلماءِ والباحثينَ في حُكمِ هذه العُملةِ، لكنَّ أكثرَ الذين اطَّلعتُ على أقوالِهم قَصَروا كلامَهم على جانبٍ واحدٍ مِن جوانبِ القضيَّة، وفاتَهم أحدُ أهمِّ جوانبِها، بلْ فاتَهم الجانبُ الأهمُّ منها، وهو محورُ الحديثِ في هذه الورقة.
- التصنيفات: التصنيف العام - فقه المعاملات - الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وآلِه وصحْبِه أجمعينَ، وبعدُ:
فقد كثُرَ السُّؤالُ عن حُكمِ التِّجارةِ بالعُملةِ الإلكترونيَّةِcryptocurrency، ومِن أشهَرِ أنواعِها البتكوينُ، وهذه الورقةُ تحاولُ الإجابةَ عن هذا السُّؤالِ.
أولًا: لا بدَّ مِن معرفةِ ماهيَّةِ العُملاتِ الإلكترونيَّةِ المُشفَّرة (Cryptocurrency)، التي يُمكِنُ أنْ تُعَرَّف بأنَّها: عُملةٌ رَقْميَّةٌ مُشفَّرةٌ بدرجةٍ عاليةٍ مِن الدِّقةِ؛ مِن أجْلِ حِمايةِ التعامُلاتِ التي تُجرَى بها، وأهمُّها ما يُسمَّى الإنفاقَ المُزْدوجَ، الذي " يُوجِدُ نُقودًا مِن لا شَيءٍ، كما سيأْتي بَيانُه"، أو مِن أجْلِ التحكُّمِ في عمليةِ إنشاءِ وَحداتٍ جديدةٍ؛ فلا يتِمُّ ذلك بسُهولةٍ، أو مِن قِبَلِ أيِّ أحدٍ؛ مِن أجْلِ تجنُّبِ عمليَّاتِ التزييفِ.
ويَشيعُ الآن الحديثُ في بعض الدُّول- مثل اليابان والسُّويد- عن استخدامِها بديلًا أو رَديفًا للعُملةِ الورقيَّة؛ فطِباعةُ العُملةِ الورقيَّةِ على الورَقِ يُكلِّفُ مالًا وجَهدًا، وبما أنَّ العالَمَ يتَّجِهُ نحوَ العصرِ الإلكترونيِّ؛ فبدلًا مِن أنْ تُطبَع العُملةُ على الورَقِ تُطبَعُ على شكْلِ أرقامٍ، أو أشكالٍ إلكترونيَّةٍ تُخَزَّنُ على أجهزةِ الحاسبِ الآليِّ، لكنَّها تُشفَّرُ بطريقةٍ مُعقَّدةٍ للغاية؛ حتى لا يُمكِنَ نسْخُها أو "تزويرُها"، كما تُنسَخُ العُملةُ الورقيَّةُ.
وكما هو الحالُ في العُملةِ الورقيَّة؛ فمنها الدُّولارُ، والجنيه الإسترلينيُّ، والرِّيالُ، والينُّ، ونحوُ ذلك، كذلك تُوجَدُ أشكال ٌ مِن العُملة الإلكترونيَّة؛ فمنها ما يُسمَّى بالـ Bitcoin ،Lightcoin Ethereum ، وغيرها.
كذلك نجِدُ أنَّ أغلَب أنواعِ هذه العُملةِ غيرُ مُغطًّى بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ المالِ الحقيقيِّ، ولا الذَّهبِ، ولا حتَّى العُملةِ الورقيَّة، وتُوجَدُ بعضُ الأنواعِ التي يزعُم أصحابُها أنَّها مُغطَّاةٌ ببعضِ الأموالِ، أو ربَّما بالذهبِ والفضَّةِ، وفي الحقيقةِ لا أدْري كيف تكونُ هذه العُملةُ مُغطَّاةً حقيقةً بتلك الأموالِ، إلا أنْ يكونَ ذلك الغِطاءُ مُجرَّدَ تعهُّدٍ مِن بعضِ الجهاتِ التي تتعامَلُ بها؛ بشرائِها مُقابلَ مبلغٍ ماليٍّ، أو بَضائعَ محسوسةٍ، وهذا فرْقٌ أساسيٌّ بين الغِطاءِ وبين القابليَّةِ للشِّراءِ، وسيأْتي بيانُ ذلك.
والفرقُ بيْنها وبين العُملةِ الورقيَّةِ: أنَّ العُملةَ الورقيَّةَ لا تصدُرُ في الغالبِ إلا مِن قِبَلِ البنوكِ المركزيَّة للدُّولِ المُعترَفِ بها دَوليًّا، أمَّا العُملةُ الإلكترونيَّةُ فإنَّها قد أُصدِرَت ابتداءً مِن عدَّةِ جِهاتٍ وأفرادٍ مَعروفينَ، وغيرِ معروفينَ، ولم تَخضَعْ- حتَّى الآنَ- لقوانينَ وتشريعاتٍ دَوليَّة، وإنْ كان هناك اتِّجاهٌ لذلك؛ ولهذا فقَدِ استخَدَمها المُهرِّبون ومَن في حُكمِهم بديلًا عن العُملةِ الورقيَّة، ولِتجاوزِ التَّحويلاتِ البَنكيَّةِ الخاضعةِ للرِّقابةِ الدَّولية.
وأيضًا فإنَّ أسعارَ هذه العملاتِ تَتذبذَبُ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في زمنٍ قصيرٍ، وتتأثُّرُ بمُتغيِّراتٍ سُوقيَّةٍ كثيرةٍ، قد يكونُ بَعضُها مُفتعَلًا، في حين أنَّ أسعارَ العُملةِ الورقيَّةِ غالبًا ما تتأثَّرُ بقوةِ اقتصادِ الدَّولةِ وضعْفِه، وأسعارُها لا تُقارَن مِن حيثُ الثباتُ، أو التأرجُحُ بأسعارِ العُملاتِ الإلكترونيَّة.
ولولا أنَّ هذه العُملةَ قُبِلَت مِن قطاعٍ كبيرٍ مِن الناسِ، سواءٌ كان ذلك مقصودًا مِن مُصْدِريها، أو كان غيرَ مقصودٍ؛ لَمَا كان لها أيُّ قِيمةٍ تُذكَرُ، بلْ ولم تُسَمَّ عُملةً أصلًا؛ إذ أصْلُ النَّقدِ ما كان مقبولًا كوسيطٍ للشِّراءِ والتعامُلاتِ المالية، بمعنى أنَّه يُمكِنُ أنْ يُستخدَمَ للشِّراءِ والبيعِ الواسِعَيِ النِّطاقِ، وليس مُجرَّدَ التبادُلِ المحدودِ المُعتمِدِ على مُجرَّدِ تراضي الطَّرفينِ.
فعلى سَبيلِ المثال: لو تبادَلَ اثنانِ؛ أحدُهما يعطي مَلابسَ، ويَأخُذُ الآخرُ مُقابلَ ذلك طعامًا؛ لَمَا اعتُبِرَ الطعامُ ولا الملابسُ نُقودًا، لكنْ لو فَرَضْنا جدلًا أنَّ ملابسَ مُعيَّنةً أصبحَتْ تُقبَلُ بشكلٍ واسعٍ جدًّا لتَبديلِها بأيِّ سلعٍ أُخرى، وأصبَح الناسُ يَحتفِظون بها لوقتِ الحاجةِ، ليس لأنَّها ملابسُ، بل لأنَّها مَحْفَظةٌ للمالِ، يُباعُ ويُشْتَرى بها- لَأخذَتْ حُكمَ النُّقودِ، وإنْ كان هذا غيرَ مُتصوَّرٍ واقعًا، ولا أظنُّ أنَّه قد حدَث في التاريخِ سِوى في أوقاتٍ مُحدودةٍ؛ نتيجةَ ظُروفٍ مُعيَّنةٍ وغيرِ دائمةٍ، وهذا ما فطَنَ له الإمامُ مالكٌ (ت 179هـ) منذ القِدَمِ، يومَ أنْ قال فرْضًا: "ولو جَرَت الجلودُ بيْن الناسِ مَجرى العَينِ المسكوكِ، لَكَرِهتُ بيْعَها بذَهبٍ أو وَرِقٍ نَظِرَةً".
وهنا أرى لِزامًا أنْ نذكِّرَ بالفَرقِ بيْن ما له قِيمةٌ حقيقيَّةٌ في ذاتِه، ثمَّ تُعورِفَ على اعتبارِه مالًا يُباع ويُشْتَرى به؛ فإنَّ قيمتَه كنقْدٍ مُقارِنةٌ ومُقارِبةٌ لقِيمتِه الحقيقيَّة، وليست مُنفكَّةً عنها تمامَ الانفكاكِ. وبيْن ما ليس له قِيمةٌ في ذاتِه- كما هو الحالُ في الورَقِ النَّقديِّ أو العُملةِ الإلكترونيَّة-؛ فقِيمةُ الورَقةِ التي طُبِعت عليها فئةُ المائةِ دُولارٍ، لا تُقارَنُ أبدًا بقِيمةِ المائةِ دُولارٍ، وهذا فرْقٌ جَوهريٌّ يَجعَلُ مِن المُتعذِّرِ قِياسَ ما قَبِلَ الناسُ التعامُلَ به وسيطًا نقْديًّا وليس له غِطاءٌ قِيَميٌّ حقيقيٌّ كالورَقِ النقديِّ، وبيْن ما قَبِلَ الناسُ التعامُلَ به كوَسيطٍ نقديٍّ- مِثْل الملابس- وله قِيمةٌ حقيقيَّةُ في ذاتِه.
والذَّهب والفِضَّة- كنَقدينِ- قد قَبِلَ الناسُ التعامُلَ بهما؛ حيثُ أودَعَ اللهُ في فِطَرِ الناسِ قَبولَهما كوَسيطٍ نقديٍّ، ومع ذلك لهما قِيمةٌ في ذاتِهما؛ لذا فالحديثُ عنهما له شأْنٌ آخَرُ، ولهذا تميَّزَا عن غيرِهما، واعتبَرَتِ الشَّريعةُ لهما أحكامًا خاصَّةً، أفرَدَها الفقهاءُ بالذِّكرِ في أبوابِ الصَّرفِ والرِّبَا.
حُكمُ التعامُلِ بهذه العُملةِ:
لقد بحَث جمْعٌ مِن العلماءِ والباحثينَ في حُكمِ هذه العُملةِ، لكنَّ أكثرَ الذين اطَّلعتُ على أقوالِهم قَصَروا كلامَهم على جانبٍ واحدٍ مِن جوانبِ القضيَّة، وفاتَهم أحدُ أهمِّ جوانبِها، بلْ فاتَهم الجانبُ الأهمُّ منها، وهو محورُ الحديثِ في هذه الورقة.
لقد قصَرَ أكثرُ الباحثينَ حديثَهم على "ماليَّة، أو نَقديَّة" هذه العُملةِ، وبنَوا على حُكْمِهم بكونِها نقْدًا مِن عدَمِه أحكامًا أُخرى؛ منها: إباحةُ التعامُلِ بها- أي: إباحةُ استعمالِها نقودًا- ثمَّ جَريانُ الرِّبا فيها، ووجوبُ الزَّكاةِ فيها كوُجوبِها في النَّقدينِ، وكوُجوبِها في العُملةِ الورقيَّة.
وذكَرَ بعضُ الباحثينَ أنَّ تذبْذبَ أسعارِها يَقترِبُ بها مِن المُقامَرةِ المُحرَّمةِ شرْعًا. وأشار بعضُهم إلى سُهولةِ تَزييفِها نوعًا ما، ومِن ثَمَّ تحريمُ التعامُلِ بها. وأشار آخَرونَ أيضًا إلى إمكانِ استخدامِها في عملياتِ التهريبِ والإجرامِ الدَّوليِّ؛ ولذا فيُمنَعُ التعامُلُ بها، وجُلُّ هذه أسبابٌ جانبيَّةٌ قد تُؤثِّرُ في الحُكمِ، وإنْ لم تكُنْ هي العِلَّةَ المُؤثِّرةَ فيه.
وقد توقَّفَ في حُكمِها جمْعٌ مِن العُلماءِ، لا لشيءٍ ولكنْ لتَوقُّفِهم في الحُكمِ بكونِها نقدًا؛ ولذلك خلَصوا إلى أنَّها إذا جرَت مَجرى الأوراقِ النَّقديَّة، بحيث اعتُرِفَ بها مِن قِبَلِ دُولِ العالَمِ كلِّها أو مُعظمِها، وأصبَحَ التعامُلُ بها خاضعًا لأنظمةٍ وقوانينَ تَمنعُ التحايُلَ بها؛ فإنَّ التعامُلَ بها عندئذٍ يكونُ مباحًا.
وفصَّلَ قليلٌ مِن الباحثينَ مِن أصحابِ الخِبرةِ في الاقتصادِ في حُكمِها، وذَكَروا أنَّ ما كان له غِطاءٌ بالذَّهبِ أو بأموالٍ عَينيَّةٍ أُخرى، فإنَّه قد يأخذُ حُكمَ الإباحةِ، وليتَ هؤلاء رَفَعوا أصواتَهم وأبْرَزوا قَضيَّةَ غِطاءِ الذَّهبِ وأثَرها في الاقتصادِ العالميِّ؛ حتى يكونَ هذا الإشكالُ أحَدَ أهمِّ محاورِ عمليَّةِ البحثِ في حُكمِها.
وقبْلَ الحديثِ عن كونِها مالًا أم لا، وحتى نَفهَمَ قضيَّةَ غطاءِ الذَّهبِ وأثَرَها في حُكمِ التعامُلِ بهذا النوعِ مِن العُملاتِ؛ يجِبُ علينا أنْ نتأمَّلَ في مَبدئِها وكيفيَّةِ ظُهورِها؛ فبالتأمُّلِ نجِدُ أنَّ جميعَ أشكالِ هذه العُملةِ أُنشِئَت مِن لا شَيءٍ، فهي- كما ذكَرْنا آنفًا- مُجرَّدُ أرقامٍ، أو ربَّما أشكالٍ إلكترونيَّة، كتَبَها أو رَسَمَها أو بَرْمَجَها أحدُ مُستخدمي أجهزةِ الحاسبِ الآليِّ؛ فليس لها أيُّ أصلٍ محسوسٍ، ولا مادَّةٍ استُخْرِجَت منها، فليس هناك تَكلفةٌ حقيقيَّةٌ في إنشائِها سِوى الكهرباءِ التي استُهْلِكَت في تَشغيلِ تلك الحاسباتِ، والوقتِ الذي صرَفهُ المُبرمجُ في كتابتِها!
وبمعنًى آخرَ نقولُ: إنَّ هذا النوعَ مِن العُملةِ أو النقْدِ صُنِعَ أو أُوجِدَ مِن لا شيءٍ، وهذا يعودُ بنا إلى الوراءِ لِيُذكِّرَنا بحالِ الورقِ النقديِّ بعدَ فكِّ الارتباطِ بينه وبين الذَّهبِ، الذي قامَتْ به الولاياتُ المُتَّحدةُ الأمريكيةُ عام 1971 م، فيما عُرِفَ بصدْمةِ نِيكسون؛ فقد كانت الأوراقُ النَّقديَّةُ حتى ذلك الوقتِ مُغطَّاةً بالذَّهب، أو لِنَقُلْ: كانت الأوراقُ النَّقديَّةُ عبارةً عن سَنداتِ مِلكيَّةٍ لمِقدارِها مِن الذهبِ؛ ولذلك اعْتِيدَ أنْ يُكتبَ عليها عبارةٌ مَفادُها بأنَّ الدَّولةَ المُصْدِرةَ تلْتزِمُ دفْعَ ذَهبٍ، قِيمتُه بقيمةِ تلك العُملةِ الورقيَّةِ لحاملِ تلك الأوراق، فلمَّا أنهَتِ الولاياتُ المُتَّحدةُ ذلك الارتباطَ، لم يَعُدِ الذهبُ غِطاءً للدُّولارِ، وقد جَرَتِ الدُّولُ الأخرى على هذا المنوالِ. ومعنى ذلك: أنَّ الدُّولَ يُمكِنُها أنْ تصنعَ مالًا مِن لا شيءٍ سِوى الورَقِ الذي طُبِعَ عليه، وهذا ما تَمَّ فِعلًا؛ فأصبَحت الدُّولُ تَطبعُ عُملتَها على الأوراقِ دونَ أنْ يكونَ لهذه الأوراقِ أيُّ غطاءٍ مِن ذَهبٍ أو فِضَّة، أو حتى مِن غيرِهما مِن الأموالِ.
لقد تحدَّثَ كثيرٌ مِن الاقتصاديِّينَ الغربيِّينَ عن هذا التحوُّل، وعَدُّوه مِن أكبرِ الأحداثِ الاقتصاديَّةِ العالميةِ، وتحدَّث بعضُهم عن مَخاطرِه، لكنْ كونُه قرارًا أمريكيًّا أغْشى نظَرَ الكثيرينَ عن خُطورتِه، وأضعَفَ أصواتَ مَن أدرَكَ خُطورتَه مِن اقتصاديِّي الغَرْب، وكان مِن المُحزنِ غِيابُ صوتِ فُقهاءِ المسلِمينَ واقتصاديِّيهم، فضْلًا عن صوتِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، مُتمثِّلًا في الدُّولِ الإسلاميَّة!
وقد لا أكونُ مُبالِغًا إنْ قلتُ: إنَّ هذه التحوُّلَ يُعَدُّ أساسَ المصائبِ التي جرَّت على العالَمِ كلِّه ويلاتٍ اقتصاديَّةً مُتنوِّعةً، ولم أجِدْ- في حدودِ بَحثي المُتواضعِ- مَن كشَفَ عن حَقيقةِ خُطورةِ هذا القرارِ وصِلتِه بسيطرةِ ثُلَّةٍ قليلةٍ مِن الأغنياءِ والأقوياءِ على اقتصادِ العالمِ، وصِلَتِه كذلك بكُلِّ المُشكلاتِ الاقتصاديَّةِ التي يُعاني منها العالَمُ.
وهذه مُحاولةٌ لتوضيحِ حقيقةِ هذا القرارِ وخُطورتِه، ثمَّ صِلَتِه بما عُرِفَ الآن بالعملةِ الإلكترونيَّةِ المُشفَّرة.
يُعَدُّ هذا القَرارُ في حقيقتِه فَتحًا لبابِ ما يُعرَفُ بعمليةِ "خَلْق النُّقودِ"، أو "إيجادِ النُّقود" أو "توليدِ النُّقود" مِن لا شيءٍ،creation of money - وإن كانت العبارةُ الأدَقُّ هي خَلقَ النُّقودِ- والتي تجري بعِدَّةِ صُوَرٍ، منها: زيادةُ المعروضِ النَّقديِّ مِن خِلالِ تَكرارِ عَملياتِ الإقراضِ، فكُلُّ هذه الصُّورِ لم تكُنْ لِتَحدُثَ لو كانت العُملةُ الوَرقيَّةُ سَنَداتٍ حَقيقيَّةً مُرتَبِطةً بمُقابِلِها مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، أو أيِّ مالٍ حَقيقيٍّ آخَرَ.
فطِباعةُ الدُّولارِ مثلًا الذي يُعَدُّ عُملةً قويَّةً- أو هو الأقوى حتى الآن- يُشترَى ويُباع بها، ما هي إلَّا إيجادٌ للنُّقودِ مِن لا شَيءٍ، فقد أمكَنَ صُنعُ الدُّولارِ مِن لا شيءٍ؛ لأنَّه لم يَعُدْ سَندًا لملكيَّةِ مِقدارِه من الذَّهبِ، بل لم يَعُدْ سَنَدًا لملكيَّةِ مِقدارِه مِن أيِّ مالٍ حقيقيٍّ آخَرَ، أو بعبارةٍ أُخرى: انفكَّ ارتباطُه بالذَّهبِ، أو بالمالِ الحقيقيِّ، وهذا أمرٌ، وإلزامُ الدُّوَلِ مُواطنيها أو التزامُها لهم اعتبارَ عُملتِها نَقدًا يُباعُ ويُشترى بها، وقَبوُلها عِوَضًا ومُقابِلًا ماليًّا- أمرٌ آخَرُ.
ومِن ثَمَّ تمكَّنت دُوَلُ العالَمِ مِن إيجادِ المالِ مِن لا شيءٍ، فأصبحَت حُرَّةً غيرَ مُقيَّدةٍ بمِلكِ الذَّهبِ والفِضَّةِ، بلْ أضْحَت قادرةً على "صناعةِ" ذهَبِها وفضَّتِها الخاصَّةِ مِن لا شيءٍ، لا أحدَ يُحاسِبُها على ذلك، وكلما ازدادت قوَّةُ الدَّولةِ العَسكريَّةُ والسياسيَّةُ، ازدادت قُوَّةُ عُملتِها، ومن ثمَّ تمكَّنت ثُلَّةٌ قَليلةٌ مِن أصحابِ النُّفوذِ مِن السَّيطرةِ على اقتصادِ العالمِ مِن خلالِ مالٍ وهْميٍّ ليس له حقيقةٌ، مُستغلِّينَ بذلك قوَّتَهم ونُفوذَهم، أمَّا الدُّولُ الضَّعيفةُ فما تصنَعُه مِن مالٍ فإنَّه مالٌ ضعيفٌ ليس له أيُّ قُوَّةٍ إلَّا مِن خلالِ ارتباطِه بالدُّولارِ، حتى ولو كانت غنيَّةً بمَصادِرِها الطبيعيَّةِ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، والدُّولارُ- كما ذكَرْنا- ليس لديه أيُّ رصيدٍ أو غِطاءٍ حقيقيٍّ!
ومِن أهَمِّ الدَّلائِلِ على أهميَّةِ الفَرقِ بين كَونِ العُملةِ الورقيَّةِ سَنَداتٍ حَقيقيَّةً إمَّا لِذَهبٍ أو فِضَّةٍ، أو لِغَيرِها من الأموالِ الحقيقيَّةِ، وبين كَونِها ورقةً تلتَزِمُ الدُّوَلُ المصْدِرةُ لها اعتبارَها عِوَضًا ماليًّا- حصولُ التضَخُّمِ، وهو زيادةُ المعروضِ النقديِّ مقابِلَ ما يجِبُ أن يمثِّلَه مِن سِلَعٍ، فلو كان النَّقدُ سَنَداتٍ حقيقيَّةً لمالٍ حقيقيٍّ لَما حصل ذلك التضَخُّمُ، وكما هو معلومٌ فإنَّ التضَخُّمَ مِن أكبَرِ المشاكلِ الاقتصاديَّةِ التي تواجِهُ دُولَ العالمِ، لا سيَّما الضَّعيفةُ منها، حتى ولو كان الذَّهَبُ الطَّبيعيُّ أهمَّ ثَرَواتِها!
إنَّ المُتأمِّلَ في حِرصِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ البالغِ على التقابُضِ في مَجلِسِ العَقدِ، لا سيَّما إذا ما تُبودِلَ مالٌ بمالٍ، لَيجِدُ مُعجزةً مِن مُعجزاتِ الشَّريعةِ الإسلاميَّة؛ فقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحديثِ المشهورِ الذي يُعَدُّ أهمَّ حديثٍ في بابِ الرِّبا: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
فالتَّقابضُ هو الوسيلةُ الفعَّالةُ الصُّلبةُ لمنْعِ هذه العمليَّةِ، أعني: خَلْقَ النُّقودِ، creation of money ، والتي تَحدُث حينما يُتبادَلُ الذَّهبُ والفِضَّةُ- وهما اللَّذانِ يُعدَّانِ أساسَ الأموالِ، وهما النَّقدانِ الوحيدانِ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ- مِن خِلالِ وُعودٍ بين المُتبادلين، حتَّى ولو كانت هذه الوُعودُ مُوثَّقةً على أوراقٍ، أو مِن خلالِ تبادُلِ سَنداتِ المِلكيَّةِ للذَّهبِ أو الفضَّة، وتلك الوعودُ المُوثَّقةُ أو سَنداتُ الملكيَّةِ هي ما عُرِفَ بعدَ ذلك بالأوراقِ النَّقديَّة.
فالرِّبا تَمنعُه المُماثَلةُ، وخلقُ النقودِ يَمنعُه التقابُضُ، كما نَصَّ على ذلك الحديثُ السابقُ، وهاتانِ العمليَّتانِ- وهما الرِّبا وخلق النقود- مُرتبطتانِ ارتباطًا وثيقًا بعضُهما ببعضٍ، فلا يتحقَّقُ التقابُضُ الذي يمنعُ الرِّبا إلا إذا كان المالُ حقيقيًّا، فالرِّبا وخَلْقُ المال هما أساسُ خرابِ الاقتصادِ العالميِّ ومشاكِلِه المتعَدِّدةِ، وأساسُ اختلالِ التوازُنِ الذي خَلَقَ اللهُ جلَّ وعلا عليه الكونَ، ووزَّعَ الأرزاقَ؛ فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا رزَقَ بَعضَ البلادِ بالذَّهب، وبعضَها بغيرِ الذَّهب، فإذا ما صُنِعَ ذهَبٌ- أو نقْدٌ- مِن لا شيءٍ، اختَلَّ هذا التوازنُ وهذا العدْلُ الإلهيُّ، وحَلَّ مكانَه الظُّلمُ الذي يُمارِسُه القويُّ الذي لا يُؤمِنُ باللهِ، ويتمرَّدُ على سُلطانِه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].
وخَلقُ المالِ يمنَحُ فُرصةً لإيجادِ مالٍ وهميٍّ ليس له أيُّ غِطاءٍ، بل، وكما هو الحالُ في العُملةِ الإلكترونيَّةِ المشَفَّرةِ، يمكَّنُ العدَدُ المحدودُ الذي يمتَلِكُ مهاراتِ خَلقِ المالِ مِن الحُصولِ على الثَّروةِ، وربَّما احتكارِها، ولِكَونِه غيرَ مُنضَبِطٍ فهو بابٌ واسِعٌ للغِشِّ والخِداعِ؛ إذ ليس ثمَّةَ مالٌ حقيقيٌّ يمكِنُ تقييمُه، ومِن ثمَّ يُمكِنُ التلاعُبُ في أسعارِه والتحَكُّمُ فيها، وهذه القيمةُ غيرُ المُنضَبِطةِ تَقفِزُ ارتفاعًا وتهوي انخفاضًا في وقتٍ يسيرٍ، ويحدُثُ بسَبَبِ هذا المالِ غيرِ الحقيقيِّ الشِّراءُ المُزدَوجُ عِدَّةَ مرَّاتٍ، فيُخلَقُ مِن هذا المالِ الوهميِّ مالٌ وهميٌّ آخَرُ، مهما سُنَّت من قوانينَ لِضَبطِ هذه العمليَّةِ، فيُصبِحُ الاقتِصادُ العامُّ أو اقتِصادُ ذلك السُّوقِ فُقاعةً لا تلبَثُ أن تَنفَجِرَ مُحدِثةً دَمارًا هائِلًا.
ومع الأسفِ، فإنَّ قضيَّةَ خلْقِ المالِ لم تأخُذْ حظَّها الكافيَ مِن البحثِ والدِّراسةِ مِن قِبَلِ فُقهاءِ المسلمينَ، مع أنَّها وإنْ كانتْ قرينةً للرِّبا في كَثيرٍ مِن الأحيانِ، إلَّا أنَّ بعضَ صُوَرِها وتشعُّباتِها تمتدُّ إلى ما لا تَمتدُّ إليه صُوَرُ الرِّبا وتشعُّباتِه.
وعلى هذا، فإنَّ أيَّ خلق أو إيجاد للمال مِن لا شيءٍ أمْرٌ مُحرَّمٌ في الشريعةِ؛ فهو ابتداء اعتِداءٌ على حقِّ الخالقِ في الخلْقِ؛ فهو وحْدَه جلَّ وعلا مَن يُوجِدُ شيئًا مِن لا شيءٍ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
ولو أنَّ العالَمَ الإسلاميَّ كان له حُضورٌ على السَّاحةِ العالميَّة، وعلى الاقتصادِ العالميِّ، لَمَا أَذِنَ بفَكِّ الارتباطِ بين الذَّهبِ والعُملةِ الورقيَّة، ولَأصَرَّ على أنْ تكونَ الأوراقُ النَّقديةُ مُجرَّدَ سَنداتِ مِلكيةٍ لِمَا يُساويها مِن الذَّهب، ولَامْتنعَتِ الدُّولُ الإسلاميَّةُ عن التعامُلِ بهذا المالِ الوهميِّ الذي صنَعَه القَويُّ الظالمُ مِن البَشرِ، ولَقاوَمَت استعمالَه حتَّى آخِرِ رمَقٍ قبْلَ أنْ تقَعَ ضحيَّةً له ولمَن صنَعَه!
حُكمُ العُملةِ الإلكترونيَّةِ غيرِ المُغطَّاةِ بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ المالِ:
هذه العُملةُ الإلكترونيَّةُ المُشفَّرةُ صُورةٌ أُخرى مِن صُوَرِ صناعةِ المالِ الذي ليس له أيُّ غِطاءٍ، وكما ذكَرْنا فإنَّها الآنَ تُصنَعُ مِن قِبَلِ أفرادٍ أو شركاتٍ ودُول، ولم تُعتمَدُ حتى الآنَ للتعامُلِ الدَّوليِّ، وقد يتِمُّ ذلك قريبًا؛ لِتَحُلَّ مَحلَّ العُملةِ الورقيَّة، وليسَا إلا وجْهينِ لعُملةٍ واحدةٍ؛ نقْدٌ وهْميٌّ ليس له غِطاءٌ ماليٌّ، فضلًا عن أنْ يكونَ له غِطاءٌ مِن النَّقدينِ الحقيقَينِ: الذَّهبِ والفِضَّة.
ولذلك تَحرُم صِناعةُ هذا النَّقدِ المعروفِ بالنُّقودِ الإلكترونيَّةِ المُشفَّرةِ Cryptocurrency، سواءٌ كان ابتداءً، أو مِن خلالِ ما يُعرَفُ بعملياتِ التَّنقيب؛ لأنَّه إيجادٌ للمالِ مِن لا شيءٍ- كما تقدَّمَ. ويَحرُم كذلك ضَخُّ الأموالِ لتَقويتِه مِن خلالِ تداولِه بَيعًا وشِراءً.
أمَّا إذا أصبَحتْ هذه العُملةُ بديلًا أو رَديفًا للعُملةِ الورقيَّة، والتَزَمت الدُّوَلُ أو البُنوكُ المركزيَّةُ أو الجِهاتُ القانونيَّةُ المُصْدِرةُ لها، بصَرفِها بقيمتِها مِن أيِّ أنواعِ البضائِعِ أو النتاجِ المحليِّ، كأنْ يكونَ لدينا دُولارٌ ورقيٌّ، أو دُولارٌ رقميٌّ، أو عُملةٌ أُخرى أمريكيَّةٌ رَديفةٌ للدُّولارِ، مِثْلُ أيِّ دولارٍ، لها سِعرُ صرْفٍ مُعيَّنٌ ومُحدَّدٌ، كما هو الحالُ في الدُّولار؛ فإذا أصبحَتْ تلك العُملةُ بديلًا أو رَديفًا للعُملةِ الورقيَّةِ، وفُرِضَ على دولِ العالمِ كلِّه- ومنها الدُّولُ الإسلاميَّة- "صكُّها" كبَديلٍ أو رَديفٍ للعملةِ الورقيَّة، وأمكَنَ ضبْطُ سِعرِها بسِعرِ صرْفٍ مُحدَّدٍ- مع ارتفاعٍ أو انخفاضٍ يَسيرٍ، كما هو الحالُ في العُملةِ الورقيَّةِ- غَيرِ قابلٍ للتَّذبذباتِ الكبيرةِ والسريعةِ التي تَجعلُها نوعًا مِن القِمارِ المُحرَّمِ شرعًا؛ وسُنَّتْ تشريعاتٌ كافيةٌ لضمانِ استمرارِ التعامُلِ بها أولًا، ثُمَّ وَفْقَ ما تقدَّمَ مِن الشُّروطِ ثانيًا: فقد يُقال عندئذٍ بإباحةِ التعامُلِ بها، كما يُباحُ الآنَ التعامُلُ بالورَقِ النقديِّ اضطرارًا، وتُصبِحُ بديلًا مُشابهًا له، مع أنَّ أصلَه- أي: الورَقِ النقديِّ- بعدَ فكِّ الارتباطِ بيْنه وبين الذهبِ مُحرَّمٌ.
وعلى الدُّولِ الإسلاميَّةِ أنْ تُحاوِلَ جاهدةً- إذا ما أرادتِ استقلالَ اقتصادِها، وبسْطَ العدْلِ على الأرضِ- تجنُّبَ بيْعِ ثَرواتِها بمُقابلٍ يُدفَعُ مِن خلالِ تِلك العُملات؛ حتَّى لا يُضَخُّ مزيدٌ مِن القوَّةِ فيها، وإنما بيعُ ثَرواتِها بذهبٍ أو فِضَّةٍ حقيقَيْنِ، أو مِن خلالِ مُقايضةٍ بأموالٍ منقولةٍ.
حُكمُ العُملةِ الإلكترونيَّةِ المُغطَّاةِ بالذهبِ:
كما ذكرتُ سابقًا، فإنَّه مِن غيرِ المُتصوَّرِ أنْ تكونَ بعضُ هذه العُملاتِ حتى الآنَ مُغطَّاةً بغِطاءٍ حَقيقيٍّ مِن الذَّهب، وغايةُ ما في الأمْرِ تعهُّدُ بعضِ مُصْدِريها بدَفْعِ قِيمتِها الأصليَّةِ ذهَبًا، وعلينا أنْ نَتثبَّتَ مِن هذا التعهُّد، وهل هو مُجرَّدُ تعهُّدٍ أدبيٍّ، أم تعهُّدٌ مُلزِمٌ مِن خلالِ تبعيَّتِه لقانونٍ مُستقرٍّ ومُعترَفٍ به.
هذا مِن ناحيةٍ، ومِن ناحيةٍ أُخرى: لا بُدَّ أنْ يكونَ سِعرُها مُتناسبًا مع سِعرِ الذَّهب؛ حتَّى نتحقَّقَ مِن مِصداقيَّةِ هذا الغِطاءِ، وإذا كان الأمرُ كذلك فيجِبُ الامتناعُ عن التعامُلِ بها بصورةٍ تَفصِلُ بينها وبين الذَّهبِ الذي يُغطِّيها مِن خلالِ المُزايدةِ في سِعرِها؛ فأسعارُ الذهبِ وإنْ كانت تتغيَّرُ إلا أنَّه تغيُّرٌ مَحدودٌ مُقارنةً بالزَّمنِ المُستغرَقِ لتغيُّرِه، فإذا ما تَذبذبَ سِعرُ هذه العُملاتِ بشكلٍ كبيرٍ وفي زمنٍ قصيرٍ، دلَّ ذلك أوَّلًا على عدَمِ وجودِ غِطاءٍ حقيقيٍّ لها مِن الذَّهب، وكذلك أصبحَ القولُ بحُرمةِ التعامُلِ بها مُتعيِّنًا؛ وذلك لاقترابِ ذلك التعامُلِ بها بَيعًا وشِراءً مِن المُقامَرةِ المُحرَّمةِ، كما ذكَرْنا سابقًا.
ومن نافلةِ القول: أنَّه إنْ ثبَتَ لها غِطاءُ الذَّهبِ بتلك القُيودِ التي ذكَرْنا، فإنَّها لا تُصبِحُ عُملةً مُستقلَّة، بلْ حقيقتُها أنَّها سَنداتُ مِلكيةٍ للذَّهب، ومِن ثَمَّ تَخضعُ لأحكامِ الصَّرفِ المعروفة، ولا أُطيلُ فيها؛ لأنَّي ذكرْتُ هذا الوجهَ احتمالًا، وإلا فلا أظنُّ أنَّه واقعٌ حَقيقيٌّ، على الأقلِ حتى هذا الوقتِ.
حُكمُ العُملةِ الإلكترونيَّةِ المُغطَّاةِ بأنواعٍ أُخرى مِن الأموالِ أو المَنقولات:
كما ذَكرْتُ آنفًا في حُكمِ تلك العُملةِ المُغطَّاةِ بالذهب: أنَّه مِن غيرِ المُتصوَّرِ أنْ تكونَ بعضُ صُورِ أو أنواعِ هذه العُملةِ مُغطَّاةً بالذَّهب، فكذلك الحالُ بالنِّسبةِ لغِطائِها مِن الأموالِ والمنقولاتِ الأُخرى، بلْ إنَّ عدَمَ الإمكانِ هنا أقْوى. وعلى كُلِّ حالٍ: إنْ فُرِضَ وُجودُ نوعٍ مِن أنواعِها ممَّا له غِطاءٌ بأنواعٍ أُخرى مِن الأموالِ- كالأراضي، والعَقار، ونحوِ ذلك- فإنَّ هذه العُملةَ لا يُمكِنُ إلَّا أنْ تُعَدَّ سَندَ مِلكيةٍ لذلك المالِ، وعندئذٍ فيَتعيَّنُ علينا أنْ نَتعاملَ معها كسَنداتِ مِلكيَّةٍ، وليس كوَرَقٍ نقْديٍّ، إلا إذا استقرَّ التعامُلُ بها كورَقٍ نقْديٍّ، وعندئذٍ لا بدَّ لنا مِن نظَرٍ جديدٍ في حُكمِها كما تقَدَّمَ، ويُقال فيها ما قِيل في سابقَيها مِن التَّحرُّزاتِ؛ لِتَجنُّبِ دُخولِ المَيْسِرِ عند التعامُلِ بها.
تمَّت الورقةُ، واللهُ الموفِّقُ والهادِي إلى سواءِ السَّبيلِ.