إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً

أبو الهيثم محمد درويش

{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }  [يس 6 – 12]

  • التصنيفات: التفسير -

{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} :

آخر الرسل و خاتم الرسالات تحمل النذارة لكل غافل عن الإيمان مبتعد عن سبيل الله , وتذكر بما حاق بالأمم المكذبة من قبل , فالله يمهل ابن آدم وينذر ويرسل الآيات المتلوة والكونية ثم إذا كان الإصرار طبع الله على قلوب المعاندين وغلف عقولهم وكأنهم في أغلال استحقوها بما كسبت أيديهم, وكانت السدود بينهم وبين الحق الذي رفضوه وأمعنوا في الرفض, حتى أنهم لم تعد تنفعهم نذارة ولا تجدي معهم آيات.

إنما ينتفع بالآيات والنذر أصحاب القلوب السليمة التي قبلت الحق وأحبت الخالق و سارعت في الإجابة فهؤلاء لهم البشرى بالمغفرة والأجر الكريم.

ثم يوم القيامة يحيى تعالى هؤلاء وهؤلاء ويجمعهم ليوم لا ريب فيه لينال كلٌ جزاء ما قدمت يداه.

قال تعالى:

 { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }  [يس 6 – 12]

قال السعدي في تفسيره:

{ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } } وهم العرب الأميون، الذين لم يزالوا خالين من الكتب، عادمين الرسل، قد عمتهم الجهالة، وغمرتهم الضلالة، وأضحكوا عليهم وعلى سفههم عقول العالمين، فأرسل اللّه إليهم رسولا من أنفسهم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، فينذر العرب الأميين، ومن لحق بهم من كل أمي، ويذكر أهل الكتب بما عندهم من الكتب، فنعمة اللّه به على العرب خصوصا، وعلى غيرهم عموما. ولكن هؤلاء الذين بعثت فيهم لإنذارهم بعدما أنذرتهم، انقسموا قسمين: قسم رد لما جئت به، ولم يقبل النذارة، وهم الذين قال اللّه فيهم { { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } } أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم، وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.

وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم، فقال: { {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} } وهي جمع "غل" و "الغل" ما يغل به العنق، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل، وهذه الأغلال التي في الأعناق عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق، { {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} } أي: رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.

{ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } } أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان، { { فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة. { {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } } وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!

والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله: { {إِنَّمَا تُنْذِرُ } } أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك { { مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } } أي: من قصده اتباع الحق وما ذكر به، { {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } } أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق، وخشية اللّه تعالى، فهم الذين ينتفعون برسالتك، ويزكون بتعليمك، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين { {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} } لذنوبه، { {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} } لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة.

{ { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} } أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال، { {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} } من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، { {وَآثَارَهُمْ } } وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.

ولهذا: { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرما، وأعظمهم إثما.

{ {وَكُلَّ شَيْءٍ} } من الأعمال والنيات وغيرها { {أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} } أي: كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب، التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوح المحفوظ.

#أبو_الهيثم

#مع_القرآن