مفتاح شخصية عباس العقاد
محمد جلال القصاص
السياق العام للشخص العقَّاد: يخالف السائد. بحثًا عن الذات، عنادًا واستكبارًا. ولو أن المقام استقصاء لزدتك عشرات الأمثلة، ولكن المقام مقال: فكرة وشرحها.
- التصنيفات: التصنيف العام - الواقع المعاصر -
في عبقرياته يطوف عبَّاس العقَّاد حول كل عبقري بحثًا عن مفتاح شخصيته، فهذا مفتاح شخصيته التعبد، وهذا مفتاح شخصيته الفروسية وأخلاقها، وهذا مفتاح شخصيته الجندية وانضباطها، وهذا، وهذا..، وإذا أردنا أن نبحث عن مفتاح شخصية العقَّاد نفسه فهو: "مخالفة السائد" عنادًا وإثباتًا للذات!!
منذ كان طفلًا –كما يحكي هو- وهو يقف في الجانب الذي لا يقف فيه أحد، أو يقف ضد السائد!!
وهذه بعض المشاهد كشواهد:
بعد أن استقر الاحتلال في بلاد المسلمين جاءت حملات التنصير تترا، كلما فشلت حملت جاءت أختها، وبعد أن كان النصارى يحتمون في العائلات وكبار الشخصيات أصبحوا من كبار موظفي الدولة وتسللوا للسلطة، والثقافة، والفن، والمال، واستدعى هذا يقظة من المسلمين فاشتدوا لرد حملات التنصير. فكتب "الشيخ" محمد عبده، وكتب الشيخ محمد رشيد رضا، وكتب الشيخ الدكتور محمد محمد حسين، وإلى يومنا هذا هناك من يكتب ويرد إفك النصارى على نبيهم ونبينا. إلا عبَّاس العقَّاد خالف جموع المسلمين ووقف بجوار النصارى يتحدث بما لا يصدقه عاقل. امتدح بولس الطرطورسي (شاؤول اليهودي..محرف النصرانية)، يقول: أحد مركزين اتكأت عليهما النصرانية في نشأتها وتطورها!!
وكأن بولس لم يُذَم من كل تلاميذ المسيح حتى الذي اتبعه منهم (برنابا) ليعظه هجره بعد قليل وسخط عليه، وأن بولس لم يتطور وإنما استدعي من تحت ركام الأيام بعد قرونٍ من الزمن كحالة وسط بين دين الله الذي أنزله الله على نبيه عيسى- عليه السلام- والوثنية.
ويمتدح كتاب النصارى ويدافع عنه. ويدعي أن أقوال النصارى في المسيح عيسى بن مريم-عليه السلام- من أنه هو الله أو ابن الله، تعالى الله، من قبيل مدح الحبيب لمحبوبه كما يفعل الصوفية!!
وجاء على نهاية المسيح عيسى ابن مريم.. ودعني أنقل لك نص كلامه، يقول: (ففي حادثة الاعتقال لا يدري متتبع الحوادث من اعتقله ومن دل عليه وهل كان معروفًا من زياراته للهيكل أو كان مجهولاً لا يهتدى إليه بغير دليل)، ويقول: (ولا نستطيع كما أسلفنا أن نقرر على وجه التحقيق من الناحية التاريخية كيف كانت نهاية السيرة المسيحية)، ثم يتحدث عن قبر المسيح-عليه السلام-: هل هو في فلسطين أم في كشمير؟!!
ولا يستطيع باحث أن يقف حائرًا فإن كان معوجًا مال للقوم وقال بقولهم، وإن كان مستقيمَا جاء إلينا وقال بقول العليم الخبير- سبحانه وتعالى وعز وجل- {ومَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
أما العقَّاد فهو كيان مستقل يخالف السائد دائمًا!!
قلت: ولذا أحبه النصارى بالأمس واليوم، فتجده يفاخر بحب النصارى له، وتجدهم في صالونه الثقافي يزورونه ويتحدثون إليه، وإلى اليوم تجد القمص شديد البذاءة زكريا بطرس يستدل بعبَّاس العقَّاد.. بما قاله عن المسيح وما قاله عن كتابهم وما قاله عن الله، وما تحدث به عباس العقاد عن الله- سبحانه وتعالى وعز وجل- قصة أخرى لا أريد إيلام القارئ وتشتيت ذهنه بها. فقط تفضل بقراءة كتابه عن الله، جل جلال ربنا وتقدس، المسمى بـ "رسالة الله"، وكتابه عن إبليس وكتابه عن الخليل إبراهيم –عليه السلام-. وانظر ماذا يقول عن الخير والشر. تصور عن الله ورسله لا تجده إلا عند العقَّاد، ودعنا نمر لشواهد أخرى تبين مفتاح شخصية العقَّاد الآن ولعل الله أن ييسر مقالًا آخر للحديث عن رؤية العقَّاد لله ورسله.
تحدث دارون بفرضٍ علمي عن تطور الأنواع، لم يستطع هو ولا الذين جاءوا من بعده أن يقيموا عليه دليلًا يثبت صحته. واقترنت الدارونية بالإلحاد، واصطف الناس، وخاصة المتدينون منهم في وجه الدارونية إلا عبَّاس العقَّاد خالف السائد وتبنى فكرة التطور في كل شيء: في الأنواع، وفي الأديان، وتحدث بما لم يتحدث به أحد، ومن ذلك قوله بأن الإنسان بدأ وثنيًا همجيًا زراعيًا ثم تطور لإنسان الرعي، وأن المعرفة تطورت، وراح يعمم التطور في كل مكان، يقول الوثنية وعبادة (الطواطم) والتخلف في الاعتقاد مرحلة تاريخة، مع أن نسخة مشابهة ممن يظن أنهم كانوا بداية الإنسانية موجودة حوالينا في أفريقيا وغير أفريقيا، ومع أن من يقرأ في كتاب الله ساعة يعلم أن أول إنسان كان هو آدام عليه السلام، خلقه الله بيديه وعلَّمه {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، وسئل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن آدام فقال: «نبي مكلم».
واجتمع الناس في وجه قاسم أمين يردونه، إلا عبَّاس العقَّاد، أثنى عليه وعلى كتابيه (تحرير المرأة)، و(المرأة الجديدة) وسماه (المصلح الكبير)، وكذا على (نظيرة زين الدين) صاحبة كتاب (السفور والحجاب).
وأنكرت الأمةُ ما كتبه طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) حين صدر عام 1928م، وكذا ما صدر يحمل اسم علي عبد الرازق عام 1925م، إلا العقَّاد، وقف بجوارهما ينصرهما!! يقول: حرٌّ وحرية!!
وثارت ثائرة الأعضاء في البرلمان ـ وليس فقط علماء الأزهر والمتدينين ـ على مسرحية «جان دارك» لبرنارد شو لما فيها من هجوم شديد على الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف العقَّادفي البرلمان يدافع عن المسرحية، يقول: لم يتطاول برنارد شو وإنما تطاول أبطال المسرحية!!
واجتمع الشعراء على تنصيب أحمد شوقي أميرًا عليهم، وخالف العقَّاد السائد وراح ينصب نفسه أميرًا للشعر واغتر بمبايعة طه حسين، وكلاهما ليس من الشعراء!!
وكان طه حسين يخاف من طولة لسانه وجرأته، ولم يكن طه حسين قد اشتهر وتمكن يومها.
ولا أعرف أحدًا من الحالة الإسلامية كلها تطاول على (الإخوان المسلمين) أيام الاحتلال إلا عبَّاس العقَّاد، تطاول عليهم بشراسة نصرةً لأحد الظلمة (النقراشي باشا) لأنه كان من السعديين.
وحين جاء العسكر للحكم سكت العقَّاد ولم ينطق إلا بإذنهم، فكتب حين استكتبوه: كتاب (ما يقال عن الإسلام)، وكتاب (حقائق الإسلام وأباطيل خصومة)، فكانت كتابته مخالفة للسائد.. الكل بعد عن العسكر، والمنتسبون للظاهرة الإسلامية بين معتقلٍ ومكتبوتٍ في بيته وهذا يمد يده للعسكر ويتعاون معهم ويكتب حين يستكتبوه. وكان الهدف من استكتاب العقاد هو إيجاد طرحٍ بديلٍ للإخوان يسد الفراغ بعد أن ملئت بهم السجون. واستكتبوه حين شاع أمر سيد قطب وتفسيره، وهمَّ بالفعل أن يكتب تفسيرًا ليكون بديلًا للظلال، ولكن الله فض عزمه ولم يكتب ثم أتته المنية، ورحل إلى ربه.
هذا هو السياق العام للشخص العقَّاد: يخالف السائد. بحثًا عن الذات، عنادًا واستكبارًا. ولو أن المقام استقصاء لزدتك عشرات الأمثلة، ولكن المقام مقال: فكرة وشرحها.