مُحدّث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (12)

لم ينضم ناصر الدين طيلة حياته إلى جماعة معينة من جماعات الدعوة، ولم يعادِ أي مجموعة منها ونصح لها جميعاً، ولم يدخر وسعاً في تربية شباب أي مجموعة منها، وقام بنشر العلم الشرعي بكل طاقته في كل اتجاه،

  • التصنيفات: ترجمات -

تمهيد:

يعد محدث العصر الشيخ الألباني أحد أهم المصلحين السلفيين المعاصرين والذين تركو أثراً بارزاً على مسيرة الأمة الإسلامية، ولم يقتصر تأثيره ودوره على بلد محدد بل لقد بلغ تأثيره كافة أرجاء المعمورة ولا يمكن لباحث منصف في مسيرة الإصلاح المعاصر أن يتجاوز جهوده ودوره المحوري في الصحوة الإسلامية المعاصرة برغم أنه لم ينشئ جماعة خاصة به أو يرعى مؤسسة أو جمعية بعينها، ويكفيه شرفاً أن حرصه على نشر السنة النبوية الصحيحة أصبح وسام تفوق يتسابق الجميع على الوصول إليه حتى من خصومه ومخالفيه.

 

مولده ونشأته:

ولد الشيخ محمد ناصر الدين بن الحاج نوح نجاتي الألباني عام 1333هـ الموافق 1914م في مدينة أشقودرة، عاصمة دولة ألبانيا - حينئذ - لأسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي، وكان والده أحد علماء المذهب الحنفي والذي هو مذهب الدولة العثمانية، ولما ضعفت الخلافة الإسلامية تم اقتطاع ألبانيا من جسد الدولة العثمانية سنة 1912م وإلحاق بعضها بصربيا وجزء بالجبل الأسود/ مقدونيا وقسم بقي باسم ألبانيا، فاضطربت أحوال المسلمين بها لذلك، وأصبحت ألبانيا وكأنها تابعة لإيطاليا بزعامة موسوليني، وقلد أحمد زاغو ملك ألبانيا سياسات أتاتورك المعادية للدين فمنع المسلمات من لبس الحجاب، فآثر والده الهجرة إلى دمشق الشام للإقامة الدائمة فيها حرصاً على الإسلام والدين وذلك سنة 1923م، وفعل ذلك الكثير من الألبانيين.

 

في دمشق درس الألباني بمدرسة الإسعاف الخيري المرحلة الابتدائية وكان لا يعرف العربية أبداً، ولكن لأن المدارس النظامية في ذلك الوقت كانت تحت عهدة الاحتلال ولم تكن تعنى بالعلوم الشرعية بشكل جيد، لم يرغب والده أن يبقى في هذه المدارس وقام هو بنفسه بتعليمه فقرأ الألباني القرآن الكريم على يد والده ودرسه التجويد، والنحو والصرف، والفقه الحنفي،  ودرس على الشيخ سعيد البرهاني "مراقي الفلاح" في الفقه الحنفي وبعض كتب اللغة والبلاغة.

 

كما تعلم علوم الشريعة على يد والده، فقد علمه أيضاً مهنة إصلاح الساعات، فأجادها حتى صار من أصحاب الشهره فيها، وأخذ يتكسب رزقه منها.

 

توجهه إلى علم الحديث واهتمامه به:

لقد نشأ الألباني في بيئة حنفية متعصبة، وكان التقليد والتصوف هما المنهجان السائدان في الشام آنذاك، وكان الألباني على هذا المنوال حيث يأخذه والده لزيارة قبور الأولياء كابن عربي والنابلسي، وكان الجو معاديا لدعوة الكتاب والسنة والتي كانت تُلقب وتُنبز بالوهابية، إلا أن الله عزوجل أراد للألباني أن ينتقل لمنهج الاتباع والاجتهاد والحرص على السنة، يقول الألباني عن ذلك: "فلم أزل على خطى والدي في هذا الاتجاه حتى هداني الله إلى السنة، فأقلعت عن الكثير مما كنت تلقيته عنه مما كان يحسبه قربة وعبادة"، وكان ذلك بتقدير الله لوالده بالهجرة لدمشق فتعلم العربية وقرأ الكتب السلفية، ولذلك كان الألباني يدعو ويشكر لوالديه دوماً هذا الفضل، برغم أن والده رفض منهجه السلفي وخيّره بين أن يوافقه في مذهبه الحنفي أو يفارقه في البيت والعمل، فاختار الألباني أن يتمسك باتباع الدليل الصحيح من القرآن الكريم والسنة، هذا والألباني لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره!!

 

وقصة تحول الألباني لمنهج الكتاب والسنة كان عن طريق قراءته وهو دون سن العشرين لمجلة المنار التي يصدرها العلامة محمد رشيد رضا في مصر، يحدثنا الألباني عن تلك الفترة فيقول: "أول ما ولعت بمطالعته من الكتب: القصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها. ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءا من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنه ومآخذه.. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه. ومن ثم أقبلت على قراءة الكتب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه".

 

من هنا كانت شرارة توجه الألباني لدراسة علم الحديث، وفي هذا دلالة هامة جداً على دور المجلات والصحف ووسائل الإعلام الصادقة في هداية المسلمين ونفعهم شباباً ورجالاً وأن الصحف والمجلات سبب هام من أسباب نهضة المسلمين العصرية، فبسبب مقال يشاء الله عز وجل ظهور محدث للعصر!!

 

وتدور عجلة الزمان ويبدأ الألباني في عام 1372هـ يكتب في المجلات أبحاثا ومقالات في علم الحديث في مجلة (التمدن الإسلامي) يكون لها تأثير كبير في نشر علم الحديث والعناية بالتزام السنة الصحيحة في سوريا وخارجها، وكانت بداية التعريف بالألباني في العالم الإسلامي، ويقول د. أحمد معبد عن هذه المقالات: "كنت أسأل نفسي كيف يعرف الشيخ ناصر الحديث الصحيح من الضعيف... هل هو ساحر"، ثم يصبح د.أحمد معبد شيخاً في علم الحديث.

 

ومجلة المنار كانت سبباً مهماً في قيام الصحوة الإسلامية الإصلاحية المباركة بل كان بعض المستشرقين يعدها وزارة الإعلام للعالم الإسلامي، وقد كانت تتداول في الشام عند الباعة بسبب ما شهده الشام من دعوة إصلاحية تناولناها في الحلقات السابقة كان من رموزها العلامة طاهر الجزائري والعلامة عبد الرزاق البيطار والعلامة جمال الدين القاسمي والشيخ محمد بهجة البيطار، والذي تعرف عليه الألباني وحضر بعض مجالسه ودروسه.

 

فواظب الفتى الألباني على مطالعة مجلة المنار والاستفادة من أبحاثها وخاصة تحقيقات رشيد رضا في علم الحديث وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب "المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ العراقي، ولم يكن ذلك مجرد نسخ، فبعد أن نسخ نصف مجلد خطر له أن يقوم بشرح غريب الكلمات، فأعاد نسخ المجلد من جديد مع شرح غريب الكلمات حتى صار التعليق على الكتاب أكثر من المتن، وقد بلغ عدد صفحاته 2000 صفحة!! ويقول الألبانى عن ذلك الجهد: "وأحسب أن هذا المجهود الذي بذلته في دراستي تلك هو الذي شجعني وحبب إليّ المضي في ذلك الطريق"، وأصبح الاهتمام بالحديث وعلومه شغله الشاغل، وأصبح معروفاً بذلك في الأوساط العلمية بدمشق، حتى إن إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه العلمية المفيدة، وسمح له أن يدخلها وقت ما شاء، وبقي الألباني يذكر فضل العلامة رشيد رضا عليه فيقول: "فإنني بفضل الله عز وجل بما أنا فيه من الاتجاه إلى السلفية أولا وإلى تمييز الأحاديث الضعيفة والصحيحة ثانياً يعود الفضل الأول في ذلك إلى السيد رضا رحمه الله عن طريق أعداد مجلته المنار التي وقفت عليها في أول اشتغالي بطلب العلم".

 

وهنا يجب أن نتنبه لتواصل الأجيال والتأثير غير المباشر لجهود المصلحين، فرشيد رضا يؤسس المنار ويبث فيها دعوته الإصلاحية والتي منها تعظيم السنة والدعوة لتنقيتها من الشوائب التي ألصقت بها فيتشربها الألباني ويجعلها تياراً جارفاً يسري في الأمة، والعلامة طاهر الجزائري يقوم بتأسيس المكتبة الظاهرية سنة 1296هـ - 1880م، والتي يقوم الألباني بعد حوالي 50 سنة بقراءة مخطوطاتها والبالغ عددها نحو عشرة آلاف مخطوط ورقة ورقة وهو يبحث عن ورقة ضائعة من مخطوط (ذم الملاهي) للحافظ ابن أبي الدنيا، وكان أحيانا يبقى واقفا على السلم عدة ساعات يقرأ، هذا كله وهو في إجازة مرضية بأمر الطبيب!!

 

وبسبب البحث عن هذه الورقة تمكّن الألباني من وضع فهرس لمخطوطات المكتبة الظاهرية! وقد أعاد الألباني قراءة كل المخطوطات في المكتبة الظاهرية ثلاث مرات، ونسخ كل ما فيها من فوائد حديثية، وأصبحت زيارة مكتبات المخطوطات وجمع ما فيها من فوائد حديثية هواية وصِفة لازمة للألباني فقد جمع من مخطوطات الظاهرية، ومكتبة الأوقاف بحلب، والمكتبة المحمودية بالمسجد النبوي، ومكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية، ومكتبة الجامعة الإسلامية، وغيرها من مكتبات المخطوطات حتى تجمع عنده حوالي أربعون مجلداً، وكانت هذه المجلدات الأربعون الثروة العلمية الحديثية التي تفوق بها الألباني في علم الحديث على غيره، ولقلة مالِه كان يكتب هذه الفوائد على ظهر ورق الإعلانات الذي يجمعه من الطرقات أو يشتريه بثمن بخس.    

 

وليس بغريب أن يقرأ الألباني كل هذه المخطوطات، فالجميع يشهد له حتى في شيخوخته بجلَده وصبره على القراءة والبحث والكتابة حتى قبل 50 يوما من وفاته، فكيف كانت همته حين كان شاباً؟ فقد بدأ حياته بتعلم مهنة النجارة، لكن كان يتوقف العمل في الشتاء فاقترح عليه والده أن يعلّمه مهنة تصليح الساعات، فكان يستغل وقت الفراغ وعدم وجود عمل للمطالعة، وبعدما انفصل عن والده في دكان خاص به أصبح يعمل ساعة أو ساعتين في اليوم يحصل بها القوت الضروري لعائلته، ثم يذهب للمكتبة الظاهرية لعدة ساعات، ثم لما أصبح عنده مساعد في الدكان أصبح يعمل ثلاث ساعات يومي الثلاثاء والجمعة فقط، والباقي يقضيه في الظاهرية، فبهذا الجد والاجتهاد والعصامية في التعلم أصبح الألباني محدث الزمان وناصر السنة.

 

فما عسى أن يقول الشعر في رجل *** يدعوه حتى عداه ناصر الدين

 

وهذه المطالعة لمخطوطات الظاهرية ومنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وغيرهما من أعلام المدرسة السلفية كان لها بالغ الأثر في توجه الألباني السلفي.

 

دعوة العلامة الألباني:

هذه المطالعة لمجلة المنار ومن ثم مخطوطات الظاهرية وشخصية الألباني القوية والجريئة ساهمت في أن يبدأ الألباني في الجهر بقناعاته الإصلاحية والسلفية في دمشق، والجهر بهذه القناعات كان هو الشيء الجديد على دمشق وأهلها، فقد كان تلاميذ القاسمي موجودين ومعروفين أمثال العلامة بهجت البيطار، والشيخ عبد الفتاح الإمام، رئيس جمعية الشبان المسلمين في سوريا، والشيخ توفيق البزرة، لكن نشاطهم كان بين محبيهم وتلاميذهم، فجاء الألباني يجهر بها بين الناس ويدافع عنها بقوة وشدة، وبكل وضوح وصراحة، وتحمل في سبيل ذلك الكثير من المصاعب والمتاعب، ومن هنا أصبحت السلفية المعاصرة في الشام ترتبط باسم الألباني.

 

فبدأ الألباني يناقش والده وشيخه وبقية شيوخه حول قضايا التوحيد والشرك مثل الصلاة في المساجد التى بها قبور ونتج عن هذه المناقشات تأليف كتابه "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد"، وتوالت النقاشات والمتاعب حتى طلب منه والده الانفصال عنه بسبب رفض الألباني الالتزام بالصلاة خلف الإمام الحنفي، إذ كانت صلاة الجماعة تقتصر على أتباع كل مذهب لوحده، ولذلك كانت تتكرر الجماعة أربع مرات لكل صلاة في مناقضة تامة لجمع الكلمة ووحدة الأمة بسبب التعصب والجمود الفقهي، فكان الألباني يرفض ذلك ويصلي مع أول إمام مهما كان مذهبه([1])، وكانت هذه من أولى القضايا التي خالف الألباني فيها الجمهور العام، واتهم بالوهابية، وعدم احترام المذاهب الأربعة، ورفعت ضده شكاوى كيدية عند السلطات. ففي مرة من المرات  لما رآه الإمام وكان أحد المتعصّبة صاح فيه أمام الناس: يالّا! بَرَّا! بَرَّآ! بَرّآ! ولما رفض الشيخ الخروج من المسجد وتدخل الناس، صلى بهم لكنه بعد الصلاة عاد للصراخ والتهجم على الألباني وأرسل بعض أتباعه ليعتدوا على الشيخ في الشارع فمنعه أصدقاء الشيخ والمصلون من ذلك!

 

ولذلك منع الألباني من الخطابة والتدريس في عدد من المساجد والمدن، وسجن مرتين، وفي الأردن وشى به بعض الناس فأبعد من الأردن ثم تدخل بعض الشيخ محمد إبراهيم شقرة لدى الملك الحسين فسمح بعودته للأردن وبقي فيها حتى وفاته، وتعرض خلالها لبعض المضايقات الرسمية والأمنية.

 

هذا في الوقت الذي وافقه على دعوته أفاضل العلماء من تلاميذ الجزائري والقاسمي وعبد الرزاق البيطار، المعروفون بالعلم والدين في دمشق، والذين شجعوه على الاستمرار قدماً في دعوته، وقد لقيت دعوة الشيخ قبولا بين أوساط المثقفين وطلاب جامعة دمشق، لقدرتهم على فهم دعوة الشيخ، بعكس عامة الناس الأميين الذين تسيطر عليهم الخرافة والتصوف، وقد كانت دروس الشيخ منذ سنة 1943م بدأت في دكانه ثم انتقلت إلى بيوت بعض الإخوة ثم استأجروا لهم مقرا خاصاً للدروس، وفي سنة 1949م أقاموا أول صلاة للعيد بالمصلى وليس بالمساجد.

 

ومن الملاحظ تأثير البيئة على الشيخ، فهو هاجر من بلده خوفاً على دينه من بطش الحكومة المعادية للإسلام، ولذلك نجده يجعل استئناف الحياة الإسلامية وتطبيق حكم الله من صلب دعوته، كما أن مطالعته لمجلة الشيخ رشيد رضا "المنار" كان لها دور مهم في تكوين وبلورة شخصيته الثقافية وشمولية نظرته، ولذلك حقق الشيخ كتاب "حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام" لرشيد رضا في اهتمام مبكر بالمرأة المسلمة وتقدمها، وخصص لهن درسا خاصا لشرح كتاب "الأدب المفرد" للإمام البخاري.

 

كذلك وجود الشيخ في بيئة منفتحة ومشاركته علماء عصره أمثال: العلامة البيطار وأساتذة الجامعة السورية وغيرهم، جعلت الشيخ يدرس كتاب "منهاج الإسلام في الحكم" لمحمد أسد، وهو المستشرق اليهودي الذي أسلم، وبهذا يتضح حضور الجانب السياسي في فكر الشيخ مبكراً.

 

كما أن الشيخ حج أكثر من ثلاثين مرة واعتمر كثيراً وكانت رحلاته مليئة باللقاءات والمناقشات والدروس، وسافر مبكراً لأوربا وبعض البلاد الإسلامية، وكذلك التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مما أتاح للشيخ أن يحتك بالعلماء الكبار كالعلامة أحمد شاكر والشيخ حامد الفقي والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والدكتور تقي الدين الهلالي والأستاذ محب الدين الخطيب، ومن إدارة الجامعة الإسلامية العلامة محمد بن إبراهيم وبعده العلامة ابن باز وبالمدرسين في الجامعة والطلاب من بلاد شتى، كل ذلك جعل الشيخ يطلع على كثير من مشاكل وتجارب العمل الإسلامي وينقل رؤيته ودعوته لبلاد كثيرة، مما مكّن الشيخ من تكوين رؤيته السلفية الخاصة بالتغيير والنهضة، هذه الرؤية التي تعد أساس الفكر السلفي الدعوي والحركي المعاصر إن صح التعبير.

 

وأيضاً هذا الاحتكاك والسفر جعلا دعوة الشيخ تصل إلى أماكن عديدة رغم ضعف وسائل الاتصال في ذلك الزمن.

 

مراحل دعوة الألباني:

 

ويمكن تقسيم دعوة الشيخ الألباني إلى ثلاث مراحل:

 

أولاً: دعوته في سوريا:

والتي تمثل مرحلة التكوين، فقد كان الشيخ في قوة الشباب وبداية حياته العلمية والدعوية، وكانت له دروس علمية يعقدها مرتين كل أسبوع ويحضرها طلبة العلم وبعض أساتذة الجامعات ومن هؤلاء الأستاذ أحمد راتب النفاخ ود. محمد رشاد سالم المصري، محقق كتاب منهاج السنة لابن تيمية، ومن الكتب التي كان يدرسها في حلقات علمية:

 

- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.

 

- الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني، شرح صديق حسن خان.

 

- أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف.

 

- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، شرح أحمد شاكر.

 

- منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد.

 

- فقه السنه لسيد سابق.

 

وكان الشيخ وهو في العشرينيات من عمره يكتب المقالات للمجلات مثل مجلة (التمدن الإسلامي) التي يرأسها الأستاذ أحمد العظمة ومجلة (المسلمون) التي يرأسها الدكتور مصطفى السباعي.

 

وأصبح له جولات دعوية منتظمة شهرياً لعدد من المحافظات كحمص وحماة وإدلب وحلب والرقة واللاذقية، وكان لها دور مؤثر في نشر الدعوة للتمسك بالكتاب والسنة وفهم السلف.

 

وتميزت هذه المرحلة بالانفتاح على الجماعات الإسلامية، فكان بعض قادة الإخوان يحضرون دروسه كالأستاذ عصام العطار، والشيخ زهير الشاويش وغيرهما، كما كتب الشيخ في مجلة الإخوان المسلمين المصرية تعليقات على كتاب "فقه السنة"، وأرسل له حسن البنا رسالة يحثه فيها على الاستمرار في الكتابة للمجلة، وكان الألباني من المتطوعين للجهاد في فلسطين عام 1948م مع جماعة الإخوان المسلمين، كما قابل في هذه الفترة العديد من قادة الجماعات كالشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير، وكانت له جولات دعوية داخل وخارج سوريا.

 

كما التقى ببعض قادة الفرق الضالة مثل عبدالله الحبشي ورد عليه، وكذلك القاديانيين.

 

وقد طلبت منه كلية الشريعة بجامعة دمشق تخريج أحاديث البيوع الخاصة بموسوعة الفقه التي عزمت الجامعة على إصدارها عام 1955م. كما اختير عضواً في لجنة الحديث التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا (1958-1961م)، للإشراف على نشر كتب السنة وتحقيقها.

 

وقد عمل الشيخ الألباني في المكتب الإسلامي الذي أسسه الشيخ زهير الشاويش في تحقيق التراث الإسلامي ونشر السنة وهو مما ساهم في نشر دعوة ومؤلفات وتحقيقات الشيخ في بلدان كثيرة.

 

وقد عاش الشيخ تقلبات الشام السياسية سواء الظلم الواقع عليها بسبب الاحتلال الفرنسي وتداعيات الثورة ضد الفرنسيين، ثم الحكومات الوطنية، وصولاً لمرحلة الانقلابات، ثم استيلاء البعثيين على الحكم واستفراد العلويين منهم بالحكم بالحركة التصحيحية التي قام بها حافظ الأسد عام 1970م.

 

تعرض الشيخ الألباني شأنه شأن رموز العلم والإصلاح دوماً للابتلاء، فقد سجن مرتين، الأولى كانت قبل عام 1967 حيث اعتقل لمدة شهر في قلعة دمشق، وهي نفس القلعة التي سجن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وعندما قامت حرب الـ 67 رأت الحكومة أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين، لكن بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية بسب الوشايات وشهادت الزور ضده عند الحكام، فسجن في سجن الحسكة شمال شرق دمشق ثمانية أشهر، وفي السجن اختصر صحيح مسلم وهو من كتب الشيخ المفقودة، واجتمع مع شخصيات كبيرة في المعتقل.

 

وفي سنة 1980م هاجر الشيخ إلى الأردن وبقي فيها رحمه الله حتى توفي عام 1999م.

 

ومن تلاميذ الألباني في هذه المرحلة: أخوه الكبير محمد ناجي أبو أحمد - توفي مبكرا- ومن أشد مناصري الألباني ودعوته: الشيخ محمد عيد عباسي، الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، الأستاذ خير الدين وانلي، الشيخ علي خشان، الشيخ عدنان العرعور، الشيخ محمد جميل زينو، الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد، الأستاذ محمود مهدي الأستانبولي، ومن الذين استفادوا من الشيخ وتأثروا بمنهجه: الأستاذ زهير الشاويش، الأستاذ عصام العطار، الشيخ الدكتور عبد الرحمن الباني.

 

ثانياً: مرحلة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة:

وهي على قصرها التي لم تتعدّ ثلاث سنوات (1381- 1383/ 1961-1963) تعد مرحلة هامة جداً في حياته، ذلك أنها أوجدت للشيخ تلاميذ حملوا دعوته لبلاد لم يزرها أو يعرفها، وأصبح هناك تيار ينسب للشيخ في العالم وليس سوريا فقط، لأنه درّس منهجه في علم الحديث عمليا وبطريقة أكاديمية للطلاب، وأحدث بذلك نقلة في شعبية علم الحديث في العالم بعد أن كان علماً نظرياً لا يعرفه إلا أفراد محدودون، ورسخ رؤيته الدعوية بين السلفيين. خاصة إذا علمنا أن الشيخ الألباني والشيخ محمد بن عبد الوهاب البنا هما اللذان رعيا في الجامعة الإسلامية الرحلة الأسبوعية للطلبة والتي كانت مدرسة دعوية علمية خرّجت العديد من العلماء والدعاة.

 

وكل من كتب عن الألباني في الجامعة الإسلامية ذكر نشاط الشيخ في التدريس حتى في الفسحة بين المحاضرات، وأما جلساته ولقاءاته بعد الدوام الجامعي فكانت دوما مناقشات وبحوث يدرب فيها الطلاب على النقاش وطلب الدليل للوصول للقناعة، وكانت هذه اللقاءات والجلسات سببا في تعرف الألبانى على كثير من العلماء والدعاة والمدرسين من السعودية وغير السعودية ومن السلفيين وغير السلفيين، وكانت سبباً أيضاً في التعريف به عندهم.

 

وقد سعد الشيخ بسكنى المدينة المنورة وقال: "وجدت مناخاً رائعاً جداً، لديهم استعداد لتقبل الدعوة أولاً، والمنهج العلمي الذي أنا فطرت عليه وظللت عليه ثانياً"، وقد طلب منه وزير المعارف السعودي – آنذاك- الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ في عام 1388هـ أن يتولى الإشراف على قسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة أم القرى بمكة، لكن حالت بعض الظروف دون ذلك، ولكن تم اختياره عضوا في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1395- 1398هـ.

 

وقد أوصى الشيخ أن توقف مكتبته الشخصية بعد وفاته لصالح مكتبة الجامعة الإسلامية، في رد للجميل للجامعة ومكتبتها والمكتبات العامة على الشيخ، وقال الشيخ في وصيته: "لأن لي فيها ذكريات حسنة في الدعوة للكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح يوم كنت مدرساً فيها راجياً من الله تعالى أن ينفع بها روادها كما نفع بصاحبها – يومئذ- طلابها"، وهذا تواصل مع منهج الإصلاح الذي أسسه طاهر الجزائري بتأسيس المكتبة الظاهرية والتي تعذر على الألباني إهداؤها مكتبته لها وهي تحت حكم العلويين البعثيين من آل الأسد الذين فر بنفسه وأهله وكتبه من بطشهم قبل 30 سنة.

 

ومن أبرز تلاميذ الشيخ في المدينة: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، الدكتور الشيخ عمر الأشقر الذي كان أمين مكتبة الجامعة وجار الشيخ في السكن، الشيخ مقبل الوادعي، الشيخ ربيع بن هادي المدخلي.

 

ثالثاً مرحلة الإقامة بالأردن:

هذه هي المدة الأخيرة من حياة الشيخ، وقد بدأت سنة 1980م، وكان عمر الشيخ حينها يقارب 66 سنة، وامتدت هذه المرحلة حتى وفاته سنة 1999م، ويحدثنا الألباني عن فراره بدينه من سوريا وهجرته للأردن فيقول: "هاجرت بنفسي وأهلي من دمشق الشام إلى عمان، في أول رمضان سنة 1400هـ فبادرت إلى بناء دار لي فيها آوي إليها ما دمت حياً، فيسر الله لي ذلك بمنّه وفضله وسكنتها بعد كثير من التعب والمرض أصابني من جراء ما بذلت من جهد في البناء والتأسيس، ولا زلت أشكو منه شيئاً قليلاً".

 

جعل الشيخ أعماله العلمية خلال إقامته بالأردن أولوية شبه مطلقة، على حساب نشاطه الدعوي، فها هو يقول: "فإنه ما كاد بعض إخواننا في الأردن يشعرون بأنني استقررت في الدار، حتى بدؤوا يطلبون مني أن أستأنف إلقاء الدروس التي كنت ألقيها... وعلى الرغم من أنني ما كنت عازماً على شيء من الإلقاء، لأوفر ما بقي من نشاط وعمر لإتمام بعض مشاريعي العلمية"، ولهذا الموقف عدة أسباب منها: بلوغ الشيخ هذا السن، واضطراب الوضع السياسي في المنطقة، وتعرض الشيخ للطرد من الأردن بسبب وشاية المخالفين لدعوة الكتاب والسنة والذين يعرفون خطورة الشيخ عليهم، فالشيخ كان له زيارات سابقة للأردن لزيارة ابنته المقيمة بعمان، وكان يلقي بعض الدروس في زياراته، وبعضها كان يتمّ في مقر جماعة الإخوان المسلمين بمدينة الزرقاء، وكان الألباني قد زار الأردن بدعوة من جماعة الإخوان عام 1973م لمعالجة انشقاق في جماعة الإخوان نتيجة فكر تبنى تكفير المجتمع بكامله، وتمكّن الشيخ من معالجة هذه الفتنة والقضاء عليها.

 

هذا التغيير في حياة الشيخ وتقليل النشاط الدعوي كان لمجمل هذه الأسباب، ولكن مع هذا الاهتمام بالجانب التأليفي إلا أن الشيخ بقي على تواصل مع الناس والعامة من خلال اللقاءات العامة في المناسبات الاجتماعية، وكذلك من خلال تلقي الاتصالات الهاتفية، وقد سجلت هذه اللقاءات والاتصالات فبلغت أكثر من ألف شريط.

 

ومن أبرز تلاميذ الألباني في الأردن: الشيخ محمد إبراهيم شقرة، الشيخ علي حسن الحلبي، الشيخ مشهور حسن سلمان، الشيخ محمد موسى نصر، الشيخ حسين العوايشة، والشيخ عصام هادي، وغيرهم.

 

منهج الألباني:

الدعوة الإسلامية العلمية تشكل لب رؤية الشيخ المنهجية للتغيير والإصلاح، والتي تعد أساس الفكر السلفي المعاصر، وهو يؤمن أن هذه الرؤية هي الموصلة للدولة الإسلامية، فهو يقول:     "الذين يشتغلون بالدعوة هم الذين يشتغلون بإقامة الدولة المسلمة، لكن لا يلهجون بهذا الكلام، ولا يستغلون عواطف الناس، وإنما يعملون على السكوت والصمت"، وقد تحققت هذه الرؤية في مصر حيث فاجأ السلفيون الجميع بتصدر المشهد السياسي اعتماداً على جهودهم العلمية الهادئة طيلة العقود الماضية، والشيخ يعتبر نفسه امتدادا لحركة مصلحي الشام الذين لم يشكلوا إطارا أو تنظيما لتجسيد هذه الرؤية والتي كان يعبر عنها الألباني بقوله: "دعوتنا ثقّف ثم كتّل"، بعكس الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان له سعي قوي للتحالف مع قوة سياسية لتجسيد رؤيته الدعوية.

 

لكن الألباني الذي عاصر ظهور الجماعات الإسلامية قام بتأطير الدعوة السلفية في نقاط محددة حتى تتبين معالم الدعوة السلفية ويسهل فهمها لدى الجيل الجديد الذي أصبح يرغب بالنقاط العملية والمركزة وينفر من البيانات الإنشائية والبلاغية، فصاغ الألباني خمس نقاط تحدد معالم منهجه ودعوته وهدفه، سماها (دعوتنا) هي:

 

1- الرجوع إلى الكتاب الكريم والسُّنَّة الصحيحة، وَفَهمُهُما على النهج الذي كان عليهِ السَّلَف الصالح رضوان الله عليهم.

 

2- تعريف المسلمين بدينهم الحق ودعوتهم إلى العمل بتعاليمه وأحكامه، والتحلي بفضائله وآدابه، التي تَكْفُلُ لهم رِضوانَ الله، وتُحَقق لهم السعادة والمجد.

 

3- تحذير المسلمين من الشِّرك على اختلاف مظاهره، ومن البدع والأفكار الدخيلة، والأحاديث المنكرة والموضوعة، التي شَوَّهَت جمال الإسلام وحالت دون تقدم المسلمين.

 

4- إحياء التفكير الإسلامي الحر في القواعد الإسلامية، وإزالة الجمود الفكري الذي ران على عقول كثير من المسلمين، وأبعدهم عن منهل الإسلام الصافي.

 

5- السعي نحو استئناف حياة إسلامية وإنشاء مجتمع إسلامي وتطبيق حكم الله في الأرض.

 

هذه دعوتنا؛ ونحن ندعو المسلمين جميعاً إلى مؤازرتنا في حمل هذه الأمانة التي تنهض بهم.

 

آليات الألباني:

ولتحقيق هذه الأهداف فقد اعتمد الألباني عددا من الآليات هي:

1- التصفية والتربية: وهي عند الألباني نقطة البدء بالإصلاح لحل مشكلة ضياع وتخلف المسلمين، والمقصود بالتصفية تقديم الإسلام إلى الشباب المسلم مصفى من كل ما دخله على مد هذه القرون والسنين الطوال من العقائد الباطلة ومن الخرافات والبدع والضلالات، ومن ذلك ما دخل فيه من أحاديث غير صحيحة وقد تكون موضوعة... فالتصفية إنما يراد بها تقديم العلاج الذي هو الإسلام الصحيح الذي حقق للأمة من قبل العزة والرفعة، وحين تم خلطه بالبدع والشركيات تخلفت الأمة وانحطت بين الأمم؛ وقد تركز جهد الشيخ في هذا الباب وقد جعل مشروعه الشخصي لنهضة الأمة "تقريب السنة بين يدي الأمة" وقد وُفق توفيقا كبيراً بفضل الله.

 

أما التربية فالمقصود بها تنشئة الجيل على الإسلام الصحيح عقيدة وعبادة وسلوكاً، ولكن الشيخ لم يفصل كثيراً في تفاصيل تطبيق وتنفيذ الأمة ولذلك لا يزال كثير من أتباع الشيخ لا يفهم من العملية التربوية سوى عنوانها!!

 

2- من السياسة اليوم ترك السياسة: يكرر الشيخ الألباني أن السياسة جزء مهم من الإسلام، ولكنه يعتقد أن مشاركة السلفيين في السياسة ليس هذا أوانه بل في مرحلة تالية، وهو يشرح موقفه من السياسة بقوله: "نحن لا نشتغل في السياسة لكن ليس لأن الاشتغال في السياسة ليس من الإسلام لا، السياسة من الإسلام... فنحن لا ننكر وجوب الاشتغال بالسياسة لكننا رأينا في هذا الزمان أن من السياسة ترك السياسة. والغرض الآن نوافق على عدم الاشتغال وقتياً وإلا فكيف يمكن إقامة الدولة المسلمة إلا بمثل هذه السياسة لكن الذين ينبغي أن يشتغلوا بالسياسة ينبغي أن يكونوا علماء أن يكونوا فقهاء أن يكونوا علماء بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح".

 

وفي الحقيقة أن هذا موقف سياسي من الشيخ فقد علّله بالسياسة وليس بالدين، وثانيا نحن اليوم نجد عددا من الحركات الإسلامية السياسسة تتخذ قرار المقاطعة والمشاركة في اللعبة السياسية لعدم الجدوى منها، وهذا هو لب موقف الشيخ من المشاركة السلفية السياسية: مطلوبة حين تكون مجدية سواء من صلاحية البيئة السياسية للمشاركة السلفية – كما حدث في مصر- ومن ناحية وجود قوة مؤثرة للسلفيين عند مشاركتهم.

 

3- دعوتنا ثقّف ثم كتّل: عايش الشيخ عددا من التكتلات الإسلامية في عصره (جماعة الإخوان، حزب التحرير، الجماعة الإسلامية الهندية، جماعة الدعوة والتبليغ...) وأدرك خطورة سياسة التجميع دون تربية وتوعية، ولذلك كان يلخص الفرْق بين الدعوة السلفية وغيرها من الجماعات الإسلامية بقوله: "دعوتنا ثقّف ثم كتّل، وغيرنا كتل ثم ثقف ثم لا شيء".

 

 

الدور الإصلاحي الذي حققه الألباني:

يمكن أن نجمل دور الألباني في محورين هما: إنتاجه العلمي في المقالات والكتب والمحاضرات، وترسيخه لمنهج تحقيق السنة والفقه المقارن في العالم الإسلامي.

 

1-  إنتاجه العلمي:

تميز إنتاج الألباني العلمي بكونه ينتظم ضمن مشروعه الكبير "تقريب السنة بين يدي الأمة"، وتميز بسهولة العبارة ووضوحها بخلاف الشائع في زمنه كأثر من آثار التخلف والجمود والتعصب الفقهي، وتميز بتلبية حاجات المجتمع الآنية وترسيخ منهج الدعوة للكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وتميز أيضاً بالاختصار واليسر كما في كتابه "صحيح الجامع الصغير".

 

ومن يتأمل إنتاج الشيخ والذي بلغ 230 منتجا بين تأليف وتخريج وتعليق وفتوى بخلاف الأشرطة يجد أن الشيخ شارك في كافة المجالات تقريباً، وهذا التفصيل:

 

* فهو كتب وخرّج وحقّق في ما يخص تصحيح عقائد الناس مثل: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، التوسل أحكامه وأنواعه، الاحتجاج بالقدر لابن تيمية، أصول السنة واعتقاد الدين للحميدي (خ)، شرح العقيدة الطحاوية، العقيدة الطحاوية شرح وتعليق، وغيرها.

 

* كتب في علوم القرآن: معالم التنزيل للبغوي(خ)، بين يدي التلاوة(خ)، كيف يجب أن نفسر القرآن.

 

* وكتب في العبادات والمعاملات مثل: صفة الصلاة وله فيها ثلاثة كتب كبير وصغير ومختصر، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم، أحكام الجنائز، أحكام الركاز (خ) حجاب المرأة المسلمة، حقيقة الصيام، آداب الزفاف، المسح على الجوربين، وإصلاح المساجد لجمال الدين القاسمي.

 

* كتب في السيرة: فقه السيرة للغزالي، دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في فقه السيرة.

 

* كتب في تخريج أحاديث الفقه الحنبلي: ويعد كتابه (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) أول كتاب حديثي يختص بالمذهب الحنبلي، ويلحق بهذا كتابه (الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد).

 

* كتب في فقه الدليل والفقه المقارن: التعليقات الرضية على الروضة الندية، تمام المنة، الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب.

 

* كتب في السنة النبوية تخريجاً وتحقيقاً وتأصيلاً مثل: مختصر البخاري ومسلم، وتخريج وتحقيق كتب السنن الأربعة، والسلسلة الصحيحة والضعيفة، العودة للسنة(خ)، الحديث حجة بنفسه، وغيرها.

 

* كتب في علم الحديث: الإكمال في أسماء الرجال للتبريزي، الباعث الحثيث، تاريخ دمشق.

 

* كتب في تصحيح المفاهيم: إرشاد النقاد في تيسير الاجتهاد للصنعاني(خ)، حقوق النساء لرشيد رضا، الدعوة السلفية أهدافها وموقفها من المخالفين(خ)، فقه الواقع، المصطلحات الأربعة للمودودي.

 

* كتب في تزكية النفوس: صحيح الكلم الطيب، رياض الصالحين، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، كلمة الإخلاص لابن رجب، لفتة الكبد في تربية الولد لابن الجوزي، مساوئ الأخلاق للخرائطي.

 

* فهارس علمية للكتب والمكتبات: أسماء الكتب المنسوخة من المكتبة الظاهرية(خ)، بغية الحازم في فهارس مستدرك الحاكم(خ)، فهرس كتاب الكواكب الدراري لابن عروة الحنبلي، فهرس المخطوطات الحديثية في مكتبة الأوقاف الحلبية، منتخبات من فهرس المكتبة البريطانية(خ).

 

* كتب في الرد على المنحرفين: الرد على التعقيب الحثيث للحبشي، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، الرد على أرشد السلفي، الرد على كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الرافضي(خ).

 

تكامل الشيخ مع الجهود الإصلاحية الأخرى:

آمن الشيخ الألباني بتكامل الجهود في العمل الدعوي، وخاصة في مجال التثقيف والتأليف، وكان يرى أن من تطبيقات مبدأ "التصفية" الذي يؤمن به: المساهمة في تصفية بعض الكتابات العصرية المهمة لرموز الدعوة الإسلامية من الأحاديث الضعيفة، لما لها من دور مهم في "تربية" الصحوة الإسلامية ومن ذلك:

 

- تعقيبه على كتاب "الحجاب" وتخريج أحاديث كتاب "المصطلحات الأربعة في القرآن" لأبي الأعلى المودودي.

 

- كتاب "المرأة المسلمة" لحسن البنا، قام الألباني بمراجعته والتعليق عليه وتخريج أحاديثه.

 

- ألف الشيخ كتابا مستقلا هو "غاية المرام في تخريج أحاديث كتاب الحلال والحرام" للشيخ يوسف القرضاوي، وخرج أحاديث كتابه "علاج مشكلة الفقر".

 

- تخريج أحاديث كتاب "فقه السيرة" للشيخ محمد الغزالي.

 

- تخريجه لأحاديث كتاب "فقه السنة" للشيخ سيد سابق، وسماه "تمام المنة".

 

والمتأمل في هذه الكتب التي اعتنى الشيخ الألباني بها يجد بكل وضوح أنها كتب تخدم أهداف الشيخ في تربية المسلمين على الأحكام الشرعية الصحيحة، مما يحقق وجود المجتمع المسلم، الذي يعد بداية "السعي نحو استئناف حياة إسلامية وإنشاء مجتمع إسلامي وتطبيق حكم الله في الأرض".

 

وعناية الشيخ بهذه الكتب التي ألفها قادة بارزون في جماعات غير سلفية، تثبت جدية موقف الشيخ في التعاون بين الجماعات على ضوء الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة.

 

2- المحور الثاني للدور الإصلاحي للألباني: ترسيخ منهج تحقيق السنة والفقه المقارن في العالم الإسلامي:

لقد وفق الله عز وجل الألبانى لترسيخ منهج تحقيق السنة حتى أصبح منهجاً راسخاً أكاديمياً وشعبياً فلا يقبل حديثا دون تحقيق وبيان صحته، ولا يقتصر هذا على السلفيين بل أصبح لكثير من خصومهم عناية بتخريج الأحاديث وتحقيقها، بعد أن كان هذا نسياً منسياً حتى عند علماء السعودية، يقول العلامة ابن عثيمين عن دور الشيخ في هذا الباب: "إن كثيرا من المشايخ قبل دعوة الشيخ ما كانوا يفرقون بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، ومن المشايخ من كان يفتي ويبني فتواه على أحاديث ضعيفة بل بعضها موضوع، فبدأ الشيخ ينشر هذا العلم الشريف حتى تبصر الناس وعرفوا الصحيح من الضعيف، فجزاه الله خير الجزاء".

 

كما أن أبحاث الشيخ ومناقشاته للمسائل الفقهية على منهج اتباع الدليل ترسخ حتى أصبح هو المنهج المتبع في الجامعات باسم "الفقه المقارن"، وقد كان للشيخ دور بارز في ترسيخ هذا النهج من خلال تمييز صحة الأحاديث ونشر السنن العملية المجهولة لكثير من الفقهاء حتى أصبح الاعتماد على الآثار ركن أساسي في الأبحاث المعاصرة، ويندر أن تجد بحثا فقهيا لا يعتمد على تخريجات الألباني كأساس أو مساندة.

 

وهذا المنهج المقارن المعتمد على الدليل هو الذي فتح باب الاجتهاد المعاصر وقضى على الجمود والانغلاق وتخلص المسلمون من كثير من الفتاوى المتعنتة دون حق، مثل فتوى عدم طهارة الجنب الذي يضع حشوة في أسنانه، والتي تنازع فيها الألباني مع والده فيها، ومن ثم تراجع والده لرأيه.

 

وفاته رحمه الله تعالى:

كانت وفاته رحمه الله عصر يوم السبت 22 جمادى الآخرة 1420ه الموافق 2/11/1999م، في مدينة عمان بالأردن، وقد بلغ 85 عاماً، وصلى عليه وشيعه آلاف من محبيه وتلاميذه في نفس الليلة بحسب وصيته.

 

ولعل من الكلمات المختصرة التي وصفت الشيخ الألباني بعمق ما قاله الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق دفاعاً عن الشيخ ضد هجوم مجلة المجتمع الكويتية على الألباني:

 

"لم ينضم ناصر الدين طيلة حياته إلى جماعة معينة من جماعات الدعوة، ولم يعادِ أي مجموعة منها ونصح لها جميعاً، ولم يدخر وسعاً في تربية شباب أي مجموعة منها، وقام بنشر العلم الشرعي بكل طاقته في كل اتجاه، وتلامذة الشيخ من جميع الجماعات والتنظيمات الإسلامية فله تلاميذ وأحباب من جماعة الإخوان المسلمين ومن جماعة حزب التحرير ومن جماعة عباد الرحمن ومن السلفيين، ولم ينشء الشيخ تنظيماً خاصاً ولا أقام جماعة خاصة بنظام خاص، لا لعجزه عن ذلك ولا لأنه يرى أن هذا حرام وإثم، ولكن لأنه يرى أن الأولى به أن ينشر علمه للناس جميعاً وللجماعات كافة وذلك أنه يرى أن المنهج السلفي لفهم الدين هو المنهج الكفيل بعودة المسلمين إلى الدين الحق عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاقاً".

 

بقلم/ أسامة شحادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  وفي آخر حياة والده لان الأب لدعوة الابن وأصبح يعترف له بصواب بعض ما يدعو إليه، وكانت علاقته به طيبة.