وامتازوا اليوم أيها المجرمون
أبو الهيثم محمد درويش
قال الله تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} بأن نجعلهم خرسا فلا يتكلمون، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب. {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه، وينطقها الذي أنطق كل شيء.
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير -
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ:
كما كانوا فريقين في الدنيا يأمرهم الملك سبحانه بالابتعاد عن المؤمنين في الآخرة ليكونوا فريقين كسابق عهدهم , و الاختلاف الجوهري في هذا المشهد الجليل أنه يوم الجزاء ففريق الإيمان إلى الجنة و فريق الإجرام إلى النار.
حذرهم سبحانه من عبادة الشيطان المتمثلة في اتباعه و قبول أداته الفاتنة – الدنيا- و بيع الآخرة بسبب الهوى و طاعة إبليس , اتخذوه ولياً وهو لهم عدو مبين فاستحقوا أن يكونوا في حزبه في نار السعير.
أمروا بعبادة الله وحده وطاعة أمره واتباع رسالاته فأبوا وعاندوا واختاروا الهوى والشيطان , أجيال خلف أجيال تتواصى بالإجرام والعناد والاستكبار والجاهلية في الدنيا وتشيع بعضها إلى جهنم في الآخرة , يوم يختم الله على الأفواه فلا كذب ولا اختلاق للأعذار وتنطق الجوارح بما فعلت وأجرمت.
قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} [يس 59 – 67]..
قال السعدي في تفسيره:
لما ذكر تعالى جزاء المتقين، ذكر جزاء المجرمين {و} أنهم يقال لهم يوم القيامة {امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي: تميزوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة، ليوبخهم ويقرعهم على رءوس الأشهاد قبل أن يدخلهم النار، فيقول لهم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} أي: آمركم وأوصيكم، على ألسنة رسلي، وأقول لكم: {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي: لا تطيعوه؟ وهذا التوبيخ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي، لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فحذرتكم منه غاية التحذير، وأنذرتكم عن طاعته، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه، {و} أمرتكم {أَنِ اعْبُدُونِي} بامتثال أوامري وترك زواجري، {هَذَا} أي: عبادتي وطاعتي، ومعصية الشيطان {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ترجع إلى هذين الأمرين، أي: فلم تحفظوا عهدي، ولم تعملوا بوصيتي، فواليتم عدوكم، فـ {أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} أي: خلقا كثيرا.
{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي: فلا كان لكم عقل يأمركم بموالاة ربكم ووليكم الحق، ويزجركم عن اتخاذ أعدى الأعداء لكم وليا، فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك، فإذا أطعتم الشيطان، وعاديتم الرحمن، وكذبتم بلقائه، ووردتم القيامة دار الجزاء، وحق عليكم القول بالعذاب فـ {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وتكذبون بها، فانظروا إليها عيانا، فهناك تنزعج منهم القلوب، وتزوغ الأبصار، ويحصل الفزع الأكبر.
ثم يكمل ذلك، بأن يؤمر بهم إلى النار، ويقال لهم: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: ادخلوها على وجه تصلاكم، ويحيط بكم حرها، ويبلغ منكم كل مبلغ، بسبب كفركم بآيات اللّه، وتكذيبكم لرسل اللّه.
قال الله تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} بأن نجعلهم خرسا فلا يتكلمون، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب. {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه، وينطقها الذي أنطق كل شيء.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} بأن نُذْهِبَ أبصارهم، كما طمسنا على نطقهم. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي: فبادروا إليه، لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} وقد طمست أبصارهم.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لأذهبنا حركتهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} إلى الأمام {وَلَا يَرْجِعُونَ} إلى ورائهم ليبعدوا عن النار. والمعنى: أن هؤلاء الكفار، حقت عليهم كلمة العذاب، ولم يكن بُدٌّ من عقابهم.
وفي ذلك الموطن، ما ثَمَّ إلا النار قد برزت، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط، وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان، الذين يمشون في نورهم، وأما هؤلاء، فليس لهم عند اللّه عهد في النجاة من النار؛ فإن شاء طمس أعينهم وأبقى حركتهم، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه، وإن شاء أذهب حراكهم فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر. المقصود: أنهم لا يعبرونه، فلا تحصل لهم النجاة.