فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلىٰ يوم يبعثون

أبو الهيثم محمد درويش

  • التصنيفات: التصنيف العام - التفسير -
فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلىٰ يوم يبعثون

{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ . لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}:
يذكر الله تعالى عبده ورسوله يونس و كيف نجاه سبحانه بسبب استغفاره الدائم و رجوعه إلى خالقه و إنابته المستمرة، إذ نجاه سبحانه بعدما استقر السهم عليه من بين سائر أهل السفينة التي كادت تغرق بمن فيها، فالتقمه الحوت ليزداد الامتحان صعوبة فاستمر في تسبيحه و رجوعه لمولاه فلما نجح في الاختبار  توالت عليه المكافآت بالنجاة و  العافية من السقم بعد الغرق و توبة قومه و إيمانهم برسالته و استقرارهم على الإيمان و ثباتهم على الحق فبدل الله حالهم إلى أحسن حال.


قال تعالى :

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ}.


قال السعدي في تفسيره:

وهذا ثناء منه تعالى، على عبده ورسوله، يونس بن متى، كما أثنى على إخوانه المرسلين، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى اللّه، وذكر تعالى عنه، أنه عاقبه عقوبة دنيوية، أنجاه منها بسبب إيمانه وأعماله الصالحة، فقال: {إِذْ أَبَقَ} أي: من ربه مغاضبا له، ظانا أنه لا يقدر عليه، ويحبسه في بطن الحوت، ولم يذكر اللّه ما غاضب عليه، ولا ذنبه الذي ارتكبه، لعدم فائدتنا بذكره، وإنما فائدتنا بما ذُكِّرنا عنه أنه أذنب، وعاقبه اللّه مع كونه من الرسل الكرام، وأنه نجاه بعد ذلك، وأزال عنه الملام، وقيض له ما هو سبب صلاحه. 

فلما أبق لجأ {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} بالركاب والأمتعة، فلما ركب مع غيره، والفلك شاحن، ثقلت السفينة، فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركبان، وكأنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك، فاقترعوا على أن من قرع وغلب، ألقي في البحر عدلا من أهل السفينة، وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه.

فلما [اقترعوا] أصابت القرعة يونس {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي: المغلوبين.

فألقي في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ} وقت التقامه {مُلِيمٌ} أي: فاعل ما يلام عليه، وهو مغاضبته لربه.

{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: في وقته السابق بكثرة عبادته لربه، وتسبيحه، وتحميده، وفي بطن الحوت حيث قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.  

{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: لكانت مقبرته، ولكن بسبب تسبيحه وعبادته للّه، نجاه اللّه تعالى، وكذلك ينجي اللّه المؤمنين، عند وقوعهم في الشدائد.

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} بأن قذفه الحوت من بطنه بالعراء، وهي الأرض الخالية العارية من كل أحد، بل ربما كانت عارية من الأشجار والظلال. {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي: قد سقم ومرض، بسبب حبسه في بطن الحوت، حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة.

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} تظله بظلها الظليل، لأنها بادرة باردة الظلال، ولا يسقط عليها ذباب، وهذا من لطفه به، وبره.

ثم لطف به لطفا آخر، وامْتَنَّ عليه مِنّة عظمى، وهو أنه أرسله {إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ} من الناس {أَوْ يَزِيدُونَ} عنها، والمعنى أنهم إن ما زادوا لم ينقصوا، فدعاهم إلى اللّه تعالى.

{فَآمَنُوا} فصاروا في موازينه، لأنه الداعي لهم.

{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} بأن صرف اللّه عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.