الإحباط

محمد علي يوسف

  • التصنيفات: التصنيف العام - تربية النفس -
الإحباط

صديقي كان دوما منبهرا بذلك المطعم.. كان يصر أن نذهب إليه كلما زرنا القاهرة لأي سبب:

- صدقني لن تنسى أبدا هذه الزيارة.

- ستأكل طعاما لم تتذوق مثله أبدا ولا أظن أنك ستفعل يوما.

- لن تندم يا صاحبي... اسمع كلامي.


هكذا كانت تتوالى نصائحه الملحة حين ننتهي من قضاء ما جئنا للقاهرة لأجله واستعددنا لرحلة العودة إلى إقليمنا الهاديء (وأي إقليم بالمقارنة بكابوس زحام القاهرة = هو في نظري هاديء).

المهم.. بعد هذا الإلحاح من صديقي رضخت.. ذهبنا إلى ذلك المطعم ذي الصيت الذائع مرة، ثم أخرى، ثم ثالثة، يبدو أن صديقي ليس وحده من يحمل هذا الانبهار بهذا المطعم ثمة آلاف من البشر يشاركونه هذه المشاعر الجارفة مئات من هؤلاء الآلاف كانوا في كل مرة يسبقوننا إلى هناك رغم الفقر الذي يقطر من كل شبر في تلك المنطقة العتيقة التي لم أر مثلها إلا عبر الشاشات والأفلام التسجيلية التي تتحدث عن القاهرة القديمة.

ورغم صعوبة الوصول ورغم الغلاء النسبي الذي تتمتع به قائمة الطعام ورغم الأزمة الاقتصادية التي يفترض أنها بالأرقام الرسمية قد ألقت بنصف المصريين تحت خط الفقر ولم تزل تلقي بالمزيد منهم، ورغم تآكل الطبقة المتوسطة الذي يحدثنا عنه المثقفون ورغم أن المطعم لا يوزع الملوخية والموزة الضاني مجانا، رغم كل ذلك كانت الصفوف الطويلة جدا تتقدمنا في كل مرة فلا يحل دورنا في أحسن الأحوال إلا بعد ساعة ونصف أو ساعتين على الأقل.

تخيل أن يكون قد مر بك يوم شاق في زحام القاهرة وتتأهب مشتاقا لمغادرتها والعودة لحياتك الهادئة الرتيبة فيُطلب منك أن تظل واقفا في البرد جائعا مرهقا تتأمل مئات البشر يجلسون في الشارع ويلتهمون طعامهم منتظرا دورك بملل وحرج متبادل لا لشيء إلا لتتذوق هذا الطعام!

لا... وألف لا... لا أستطيع، ولا أريد.

في كل مرة كانت هذه إجابتي التي أردفها بإصرار على الرحيل وتناول أي لقمة في الطريق والسلام:

هو أكل من الجنة يعني ولا إيه؟

هنذل نفسنا عشان أكلة؟!

هذا دوما كان لسان حالي ومقالي وحجتي في مواجهة الأصدقاء الأعزاء الذين لم يكونوا ليمانعون كثيرا في انتظار دورهم إلا أن عدم ممانعتهم لم يكن ليصمد أمام إصراري في كل مرة كنا نرحل بخفي حنين.

تمر الشهور ولم يزل إصرار صديقي العزيز على أن نخوض التجربة الرائعة، هذه المرة الفرصة سانحة... لقد انتقل المطعم لمكان أوسع وأكثر تنظيما ورقيا... هذه المرة لن تنجو الموزة الضاني من براثني ولن تأخذني رحمة بطاجن الملوخية الشهير.

ماذا؟ 

الأمر صار أصعب... 

المئات صاروا آلافا..

ما هذا التزاحم الرهيب؟ 

لولا ما أعرفه عن نفاذ قانون التظاهر لاستحضرت في ذهني مشهد المليونيات البائدة يقينا ليس ثمة تصريح بتظاهرة أو مليونية هاهنا.

إنهم ينتظرون دورهم أيضا، وعليّ هذه المرة أيضا أن أنتظر مثلهم لا وربي لن أفعل هيا بنا فلنرحل بالفعل رحلنا هذه المرة وقررت في نفسي أنه ليس هنالك أمل في أن آكل في ذلك المطعم أبدا.

لكن الأولاد وأمهم العزيزة قد سمعوا بالأمر تبا... من الذي أخبرهم... إنهم يريدون خوض التجربة، وكيف أرفض وهم قليلا ما يأتون للعاصمة ويبدو أن هذا المكان صار أهم لديهم من زيارة المتحف أو قلعة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

هذه المرة المساحة الزمنية أطول فلأنتقي إذا موعدا مناسبا يخلو من الزحام ولأرضخ لطلبهم دون أن أذكر ذلك لأصدقائي وخصوصا صديقي المنبهر بهذا المطعم والذي يحرمه إصراري كل مرة من تذوق طعامه لن أحتمل شماتتهم إذا علموا.

بالفعل اخترت موعدا ميتا لا يعتاد فيه الخلق تناول طعامهم وذهبت بزوجتي والطفلين... 

لا... مستحيل المظاهرة كما هيثمة لغز هنا اللهم زد و بارك...

أحسب أن لصاحب المكان حال مع ربه ليوسع عليه بهذا الشكل اللهم زده لكن تظل مشكلتي لن أخالف مبدئي... 

هيا يا أولاد سنذهب لمكان آخر ...

تحملت إلحاحهم بصبر وامتصصت انزعاجهم من فكرة أن نغادر دون أن ننتظر دورنا وأفهمتهم بثبات وجهة نظري في عدم تحملي لفكرة أن أنتظر وجبة لست مضطرا لها مهما كانت تلك الوجبة:

- يا أبنائي نحن نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل... هكذا قبلوا منطقي على مضض أو ربما لم يقبلوا لكنهم اضطروا لذلك علي أمل بتعويض مناسب وعدتهم به؛ لكن الأمر كان قد انقلب في نفسي إلى تحدي... في تلك الليلة هاتفني صديق في وقت متأخر جدا وطلب مقابلتي بالفعل قابلته فأنا لا أزور القاهرة كثيرا ولا ينبغي رد طلبه... التقينا في ذلك الوقت المتأخر وكانت الفرصة سانحة فعلا هذه المرة أكيد سيكون المكان خاليا في تلك الساعة، ذهبنا سويا ولم أفاجأ هذه المرة نعم.. كان الزحام قريبا من المعتاد، لكنه على أي حال كان أخف الانتظار سيكون في حدود نصف ساعة..

يقترب الفجر ولم تزل قائمة انتظار. ما شاء الله ولا قوة إلا بالله... 

لا.. لن أنتظر...
استنى بس هنعمل محاولة المرة دي...

لا... 

أبدا.. 

مبادئي.. 

قناعاتي.. 

لن أنتظر طعاما غير مضطرا... أعتذر يا معدتي فلن أذل نفسي لأجلك... يا عم ما تكبرش الموضوع...

انتصر صديقي الآخر هذه المرة، وكان صديقي هذا (سلكاويا) أي يستطيع تسليك أموره ببراعة، بالفعل لم تمض دقائق حتى كنا داخل المطعم نحتل منضدة صغيرة ونتلمظ بشغف مترقبين اللحظة التي طال انتظارها الآن سنلتقي بها الموزة الضأن... طاجن الملوخية الشهير... الآن سنفهم السر وسندرك لماذا ينتظر كل هؤلاء...

جاءت اللحظة، وحان الوقت تراصت الأطباق أمامنا بعناية وكان المشهد شهيا يناسب ما تخيلناه... ثم تم الأمر..

دعني أقر أن الطعام كان جيدا، فقط؟!

نعم فقط... كان جيدا، لن أقول جيدا جدا فضلا عن ممتاز، لم أنبهر، ولم أكن لأنبهر... ليس لأنني لست شخصا انبهاريا... بل على العكس أنا من النوع الذي يعجب بأشياء يراها أكثر من حوله رديئة أو كما يقولون مجاملين نفسه حلوة بدلا من أن يقولوا لا يفهم في الأكل.

لكنني في هذه المرة لم أنبهر مطلقا على النقيض تماما

شعور رهيب بالإحباط خيم على روحي حتى أثقلها لا أريد أن أظلم المكان فهو فعلا يقدم طعاما جيدا وإن كنت قد تذوقت ما هو أفضل بلا شك لكن المشكلة لم تكن فيه على أي حال.

أكاد أجزم أن نفس الإحباط كان سيخيم على روحي حتى لو كان الطاهي أمهر طباخي العالم أو أحد أولئلك الطهاة الأتراك الذين تنتشر فيديوهاتهم الشهية على شبكات التواصل أو حتى كان الطاهي هو الشيف جوستو نفسه وهو لمن لا يعرفه بطل فيلم كارتون شهير يدور حول فن الطهي ومطاعم باريس الراقية.

في كل الأحوال لم أكن لأنبهر لأن سقف التوقعات صار أعلى مما يمكن الوصول إليه أو تذوقه بحواس دنيوية قاصرة هنا كانت المشكلة... علو سقف التوقعات جدا... المبالغة الرهيبة في وصف ما ينتظرك خلف كل تلك الجموع المنبهرة... انتظار شيء خيالي سيرتطم بروحك فيأسرها مباشرة

هذه التصورات والمبالغات هي في رأيي أهم أسباب الإحباط من أي شيء.. 

الطعام نموذجا...

الزواج نموذج آخر...

أفلام رومانسية وأغاني مثيرة للمشاعر المرهفة وينتظر الطرفان الشعور بنفس ما وعدهم به المطربون والممثلون، ثم الارتطام بالواقع.

لن أحدثك عن خيالات الأفلام الإباحية المبهرة التي تنفق عليها الملايين لعرض أشياء أغلبها لا يجده من وقعوا أسرى لها حين يواجهون الواقع عندئذ يحدث الارتطام مرة أخرى، ويتجدد الإحباط، والتململ، ثم البحث عن الإبهار الذي كانوا ينتظرونه ولم ولن يجدوه.

حتى في الدين... كثير من الدعاة يعدون الناس بحياة دنيوية وردية لا تحمل ابتلاء ولا تحوي غير النجاح الكامل والسعادة المطلقة بمجرد ضغطة زر اسمه الالتزام ناسين أو متناسين أن الإنسان خلق في كبد وأن تلك الحياة الطيبة والقلب المنشرح بالإيمان يحتاجان إلى بذل ومجاهدة وصبر وأن الغاية من ثمار التمسك بالدين ليست دنيوية قحة ولكن الأصل فيها إرضاء الله على أي حال ومآل.

سواء وجد المرء ثمارا عاجلة أم وجد بلاءً ومسه ضر، سواء وجد ملكا كسليمان وداوود أو عاين نصب وعذاب كالذي لقيه أيوب وزكريا ويحيى عليهم جميعا السلام. 

سواء شهد فتحا ونصرا كخالد وأبي عبيدة أو مات في شعب أبي طالب كخديجة رضي الله عنها.

هكذا بيَّن النبي ثمة منشط ومكره ثمة مكاره في طريق الجنة وشهوات حُف بها طريق النار هكذا كان العرض.

لم يكن الإبهار إلا هنالك في الآخرة.. في الدار التي يملك فيها الخالق وحده أن يبهرك حقا بكل لحظة.. بكل لمحة.. بكل ثمرة.. بل بكل قضمة.

لكن كل ذلك ليس مشكلة بالنسبة لهم أعني أولئك المنبهرين والمبهرين المهم لديهم هو الإبهار والانبهار العاجل دائما العاجل.

التزم وستحل كل مشاكلك المادية والدنيوية... 

تزوج وستشبع جميع احتياجاتك العاطفية والبدنية...

ذاكر وادخل الكلية الفلانية أو التحق بالوظيفة العلانية وستنعم بالرغد والراحة سائر حياتك...

خذ هذا الكورس وستتحدث الإنجليزية بطلاقة أهلها...

احضر هذه الدورة وستعرف كل أسرار النجاح في الحياة وستصير مليونيرا وربما مليارديرا خلال بضع سنوات.

تناول طعامك في هذا المطعم واصبر حتى يأتي دورك ...

صدقني ستنبهر لا محالة... لكن للأسف هذا لا يحدث لن تنبهر  لا شيء تورثه هذه الطرق في نظري إلا شيئا واحدا...

الإحباط..