هل معك من شعر أمية بن الصلت شيئاً؟
محمد علي يوسف
الحق حق في ذاته بغض النظر عن مصدره، والنفس السوية تأنس بالجمال ولها أن تتلذذ به ما لم يعطل عن واجب أن يؤدي لمعصية.
- التصنيفات: التصنيف العام - الواقع المعاصر -
- هَلْ مَعَك مِنْ شعر أُمية بن أَبِي الصَّلْت شَيْئًا؟ هكذا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ردفه على دابته يوما ثم فوجيء بالسؤال...
أمية بن أبي الصلت! الشاعر الجاهلي؟!
أهو هو من يقصده النبي صلى الله عليه وسلم؟
نعم.. هو بعينه... لكنه لم يمت على الإسلام... لقد أدرك بعثة النبي... بل ولقد لقيه وسمع منه أكثر من مرة.
لكن آخر حاله كان شكا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما صرح هو بذلك رغم إقراره بأن ما سمعه من قرآن = حق صحيح أنه قد ورد عن أمية هذا كونه حنيفيا يميل عن الشرك والأوثان ويبتغي توحيد الخالق المنان وقيل أنه تنصر بل وقيل أنه كان.... يهوديا!
الخلاصة أنه لم يك مسلما، ومات دون أن يسلم، قيل إنه رفض الإسلام كبرا وقيل حقدا وقيل رفضه غضبا لما أصاب أقرباءه من سادات قريش من مقتلة يوم بدر، الخلاصة أنه أدرك الإسلام وعرفه وسمع كتابه وأقيمت عليه حجته، ورغم ذلك رفض {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران 85].
ولقد ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن آية الانسلاخ وخبر ذلك الذي أوتي آيات الله فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين = إنما نزلت في هذا الرجل تحديدا أمية...
أو بعد كل ذلك يسأل النبي عن شعره؟! يريد أن يتذوق من بضاعته...
لم يكن للصحابي أبي عمر الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه أن يرفض ذلك المطلب النبوي أو يرده، وإن معه من شعر أمية، وما أجمل شعر أمية!
انطلق الشريد رضي الله عنه مجيبا الطلب وأنشد للنبي صلى الله عليه وسلم بيتا من شعر أمية بن أبي الصلت...
- هِيهِ
أحقا هذا الذي يسمعه الشريد؟... إنها صيحة استحسان... استزادة ... النبي صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد... فليستمر الشريد إذاً ولينشد بيتا آخر.
نفس رد الفعل يتكرر...
- هِيهِ
المزيد إذاً... بيت آخر يُنشد... ثم ثالث فرابع... نفس التفاعل من النبي في كل مرة..
هِيهِ
المزيد... استمر... أنشد
ها قد بلغ الشريد مائة بيت من شعر أمية عندئذ قال رسول الله كلمته «لَقَدْ كَادَ يُسْلِم فِي شِعْره» ... «آمن شعره وكفر قلبه»
الشعر كان يحمل معانٍ سامية فضلا عن جماله وروعة نظمه ولقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك واستمتع به وأثنى عليه أثنى على شعر رجل رفض رسالته ومات دون أن يؤمن به ويتبعه.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتذوق الشعر ويعرفه ليس فقط شعر حسان بن ثابت أو كعب بن مالك رضي الله عنهما ولكن ما هو أكثر.
لقد قال النبي يوم عن بيت الشاعر لبيد بن ربيعة (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) أنه أصدق ما قالته العرب من الشعر وفي رواية قال عن هذا البيت إنه أشعر كلمة تكلمت بها العرب.
إذاً فللنبي دراية بالشعر وإحاطة بالشعراء، إنه يعرفه ويتذوقه ويفاضل بين أبياته وقصائده حتى وإن كان مصدره غير نقي بشكل كامل.
بيت لبيد هذا تحديدا تلاه بيت خاطيء تسبب في إيذاء صحابي آخر لما أنكره وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وإن لبيدا قد أنشد البيت الذي أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في جاهليته وقبل إسلامه كل ذلك لم يمنع النبي من أن يثني على ما هو حق.
هاهنا انفكاك جهة يصر كثير منا على التغافل عنه ... الحق حق في ذاته بغض النظر عن مصدره، والنفس السوية تأنس بالجمال ولها أن تتلذذ به ما لم يعطل عن واجب أن يؤدي لمعصية.
بعض متنطعي اليوم لا يفهمون ذلك أو لا يريدون فهمه يصرون على تبكيت من مالت نفسه لشيء من الجمال المباح وتلذذت به.
شعور بالتأثم والحرج واتهام النفس بالوقوع في أسر حب الدنيا والتعلق بزينتها؛ يصرون على صبه صبا في نفوس المنتسبين للالتزام والاستقامة عند تذوقهم لشيء من الجمال المباح..
عند تأثرهم بمشهد بديع أو طرب نفوسهم بنسمة عليلة أو لوحة جميلة أو قصيدة بليغة أو رواية ماتعة أو حتى تلذذهم بوجبة هنيئة...
أتقرأ رواية؟!
أتستمع إلى شعر؟!
أتتأمل لوحة زيتية؟!
تبا لك إذاً أيها المتميع المتهوك... هكذا لسان الحال وربما المقال لدى هؤلاء... تأثُّم وحرج وعنت وندم وجلد للذات فقط لأنها تجرأت وتذوقت الجمال ثم - وياللهول- أعجبت به!
هذه المشاعر في غير موضعها = هي من أعظم ما جناه أولئك المنفرون الذين يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون، أولئك الذين يصرون على تحويل نفوس المتدينين لصحاري جرداء منزوعة البهجة مطموسة الفطرة.
تلك الفطرة التي جبلها مولاها على حب الجمال وجعل لها نصيبا مباحا للاستمتاع به {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تأمل الكلمة مرة أخرى في الحياة الدنيا صحيح أنها لن تكون خالصة إلا في الآخرة لكنها تظل مباحة رغم كونها زينة {كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} المهم أن يكونوا ممن يعلمون أما أضداد ذلك من ضيقي الأفق فأنّى لهم العلم؟!
أنَّى لهم أن يفهموا أو يشعروا وقد أصروا على التصحر الذي تشبعت به نفوس أشربت القسوة والغلظة وأصرت أن تتشربها نفوس الآخرين مثلهم.
تخيل أن هذا كله يحدث في شأن المباح المتفق على إباحته فكيف إن كان فيما هو مختلفا فيه؟، وكيف إن كان مصدره غيرهم؟
كيف لو كان من شعر أمية بن أبي الصلت أو غيره كثير منهم يرفضون الحق والخير والجمال ليس فقط إن كان ممن لم يؤمن بل ربما ممن آمن ولكن لم يكن شبها لهم أو على منهاجهم.
صار كثير منهم أسرى لمشاعر الاستعلاء وسيطرت عليهم رؤية الأفضلية للنفس ومظنة النقاء الكامل لدرجة جعلتهم لا يطيقون مختلفا ولا يعترفون لمخالف بفضل ولا يتذوقون قيمة أو جمالا يصدر عمن يرونهم أغيارا، والأغيار بلا شك أدنى منهم.
صار سوء ظنهم مقدما على انتفاعهم ولم تعد الحكمة ضالتهم ولا صاروا أولى الناس بها لمجرد أنها لم تصدر عنهم ولا عن أشباههم بل أضحوا والانتقاص غايتهم والزلات مبتغاهم والحكم على الآخرين هو أحب هواياتهم... صاروا قضاة لا هم لهم إلا إصدار حكم واحد لا يفارق يوما من خالفهم... مذنب...