المتوسطون الجدد

محمد جلال القصاص

حين يشتد الخلاف بين فريقين ويمتد يتحرك فصيل من المهتمين إلى منطقة الوسط. هروبًا من متاعب النزال الفكري ربما..

  • التصنيفات: دعوة المسلمين - الواقع المعاصر -

بسم الله الرحمن الرحيم 
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 

مدخل

حين يشتد الخلاف بين فريقين ويمتد يتحرك فصيل من المهتمين إلى منطقة الوسط. هروبًا من متاعب النزال الفكري ربما؛ وربما يسالمون الجميع حرصًا على مودتهم، وحرصًا على أن يجدوا أذنًا تسمع.

والتوسط بين حقٍ صريح وباطلٍ صريح باطلٌ جديد. وغالبًا ما يستقر المتوسطون بأشخاصهم وأطروحاتهم نظرًا لأن الناس تميل في الغالب لمن يبدو وسطًا... أو بالأحرى لمن يتوسط.

المتوسطون بين الحق والباطل في كل زمانٍ ومكان، فمثلًا: حين اشتد الخلاف حول الإيمان بين الصحابة والتابعين من ناحية والخوارج والمرجئة من ناحية أخرى، خرجت المعتزلة، وخرج أهل الكلام في المنتصف ووجدوا من يسمع لهم. بل واستقروا إلى يومنا هذا. وكذا حين اشتد الخلاف بين المؤمنين بالله من أتباع المسيح -عليه السلام- والوثنيين استدعوا "بولس..شاؤول" ومن قاربه من تحت ركام الأيام وسطًا بين الكفر والإيمان. ووجد بولس وبعضًا ممن دوَّن ملاحظاتٍ تاريخية حول حياة المسيح -عليه السلام- مَن قدّسه هو وما كتبت يداه من حكايات يقطع بها صمت الليل ورسائل يخاطب فيها نفرًا أو نفرين من أصحابه. مات بولس مقتولًا كما "الأدعياء الكذبة" بنص كتابهم، وعشرات ممن سمعوا بالمسيح -عليه السلام- دوَّنوا ملاحظاتهم، ولكنَّ بولس وأربعة فقط هم الذين استُحضروا من تحت ركام الأيام وقيل عنهم مُقدَّسون.. أخرجهم المتوسطون بين الحق والباطل، واستقروا لتوسطهم، وقَبِلهم الناس لتوسطهم.

وفي واقعنا المعاصر: خرج أهل "كفر دون كفر" في الحاكمية متوسطين المسافة بين المطالبين بالشريعة الإسلامية واقعًا في المجال العام والخاص، والرافضين للشريعة تمامًا متأولين الرفض أو كافرين بها. وكذا انتشر القول بجواز كشف الوجه واليدين حين طال الصراع بين دعاة الرذيلة وحراس الفضيلة. وقبل لم يكن يخطر ببال أحد أن مسلمة تكشف وجهها. 

 

المتوسطون كأداة في الصراع

من قبل كان الأمر عفويًا، فقد كان ظهور المتوسطين وانجذاب الناس نحوهم يحدث بشكلٍ تلقائي، إلا أن الأمر تطور في واقعنا المعاصر، فقد أصبح المتوسطون بين الحق والباطل أداة في الصراع يستخدمها المُبْطِلون. يفسحون لهم المجال وربما يشجعونهم ويفيدون منهم. وتكون الإفادة على مستويين، مستوى قريب ومستوى بعيد. 

في القريب: يكون الإطار العام الذي يُفعَّلُ فيه "المتوسطون الجدد" من قِبل الباطل وأهله هو التشويش على الجماهير، بحيث لا يصلهم خطاب الجادين نقيًا، يزاحمون بالمتوسطين الجادين، وعامة الناس يميلون بطبعهم لمن هو أسهل في الطرح، وأدوات الباطل الإعلامية والسلطوية كثيرة تحمل المتوسطين ومن دونهم إلى كل أحد فلا تستطيع صمّ أذنك .. تسمعهم أو تسمع بهم، شئت أم أبيت.

في المستوى البعيد: يكون الهدف هو إحداث زحزحة فكرية باتجاه الباطل وأهله، وذلك أن الطرح الفكري يكون ثلاثيّا دائمًا، ودعني أضرب الأمثال ليتضح المقال:
من الثمانينات إلى منتصف التسعينات في مصر، كانت ساحة المطالبين بتطبيق الشريعة ثلاثة: فريق يريد الوصول لأهدافه بالقتال (الجهاد والجماعة الإسلامية)، وفريق يتبنى ذات الأفكار عن الحاكم والمبدلين للشريعة ولكنه لا يرى السلاح وسيلة للوصول إلى هدفه ويجاهر بتكفير الحكام على المنابر (سلفية القاهرة كالشيخ عبد المقصود والشيخ فوزي السعيد، وعامة المستقلين)، وفريق لا يقول بقولهم ولا يفكر في وسائلهم (سلفية الأسكندرية). 
انفرد المُبْطلون بمن يقاتلون، وسمحوا لمن دونهم من سلفيين وغير سلفيين. وبعد أن خُضِّبت شوكة المقاتلين وأخرجوا من ساحة الصراع عمليًا أصبح من يقول بقولهم ولا يحمل السلاح هو الطرف المتشدد، ومرجئة الفقهاء هم المتوسطون، وافتعل المبطلون فريقًا وسطًا تمثل في "شيوخ الفضائيات" وفي "الدعاة الجدد"، استخدمت أداة الإعلام وسلطة الدولة في إظهار هؤلاء وسطًا في المشهد، فمال الناس إليهم والتفوا حولهم لأنهم متوسطين في المشهد. 
وفي مرحلة ثالثة تم قضم "سلفية القاهرة" وإخراجهم من المشهد، على الأقل أمام العوام. وأصبح الدعاة الجدد وسطًا بين الفضائيين وسلفية الأسكندرية. فاستقر الدعاة الجدد وتكاثروا. 

المتغير (العامل) المؤثر في الحدث هو: أدوات الإعلام وأدوات السلطة، فما ظهر من ظهر وانتشرت كلمته إلا أنه وجد منبرًا عاليًا يأتيه الناس جميعهم (قناة فضائية)، ودعمًا أمنيًا إذ قد سُمح له من النظام ومُنِع غيره. 

والآن تحدث زحزحة أخرى يحاولون جعل من أيّدهم من السلفيين طرفًا متطرفًا، والأزهر معتدلًا، والمفرطون من أمثال "البحيري". ويتم إلغاء البقية جملةً وتفصيلًا، وهذه الجملة في منتهى الوضوح لمن يتابع "تفعيل إسلام البحيري" على الشاشة. أداة الإعلام، وأداة السلطة أحضرت "إسلام البحيري" ذاته متحدثًا في الدين، وأحضرت الأزهريين يردون عليه، وأبعدت السلفيين... كل السلفيين. حتى المَرضيّ عنهم. 

 

تجليات جديدة للمتوسطين الجدد 

شهدت الساحة الفكرية في الأمة العربية عمومًا ومصر خصوصًا ظهورًا آخر للمتوسطين لا يقل خطورة عن ظهورهم في المشهد السلفي الإخواني العلماني. بعض مظاهر ذلك في استدعاء "مالك بن نبي" وسطًا بين "سيد قطب" والعلمانيين، فقد كثر الحديث عن مالك بن نبي، وتم استدعاؤه من تحت ركام الأيام ليُنْصَبَ وثنًا تأوي إليه جموع من المتوسطين الجدد الرافضين للصحويين والعلمانيين معًا، أو العاجزين عن مواجهة الباطل وأهله مواجهةً صريحة ويأخذون بفقه المراحل.

لست هنا لمناقشة مالك بن نبي ولكني هنا للقول بأن استدعاؤَه اليوم في إجابة على سؤال النهضة بشقّيه: لماذا تخلفنا؟، وكيف نتقدم؟، هي حالة من التوسط بين الحق والباطل، تُستخدم هذه الحالة في فتح طُرُق جانبية للجادين وجماهيرهم، ومع الضغط السلطوي من قبل المستبدين في السلطة تتفرق الجموع في تلك السبل. فالمتوسطون مفعول بهم وليسوا فاعلين. أداة صراع في الحدث، والفاعل هو منظومة الاستبداد بأدواتها الإعلامية والأمنية.