نية الكلب وعلمُه..
أبو محمد بن عبد الله
سبحان العليم الحكيم... تأمَّل.. كلاهما كلبٌ، بل قد يكون الكلب نفسه، وصورة القتل واحدة، ومع ذلك كانت العاقبة عل طرفَي نقيض! فحلَّت صائدة هذا، وصلُحت وطابت للأكل.. وحرُمت صائدة ذاك، وفسدت وخبُثَت عن الأكل!
- التصنيفات: دعوة المسلمين - قضايا إسلامية معاصرة -
عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله، إني أُرسل كلبي وأسمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله فكل، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه» (متفق عليه). وفي رواية: «إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ..» .
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: " إن أكل الكلب فقد أفسده؛ إنما أمسك على نفسه..."
في ظاهر هذا الحديث أنه لا تحل فريسة الكلب إلا إذا كانت نيته خالصة لسيده، وعمله في سبيله، وبما أننا لا يمكن أن نطلع على نية مخلوق، فالعمل بدلائل الظاهر والقرائن هو المتاح المتعيِّن، ولذلك فإن وجدنا الكلب قد أكل من الصائدة، واتبع فيها شهوته وأدخل حظَّ نفسه؛ فذاك دليل على أنه أمسكه لنفسه، وأن نيته كانت لنفسه ولم تكن خالصة لسيده ومالكه، وعندئذ لا تُقبل "غزوته"، بل تُرد على وجهه، وتُهمل بلا قيمة، بل خسارة في عداد الموقوذات والجِيَف.. وإذا أمسكها وتحكّم في غريزته وقاوم شهوته فلم يأكل منها، رغم أنه مخلوق للأكل كتمتع الأنعام، فذاك دليلُ إخلاصه وصلاح نيته، وبالتالي صلحت أعماله وحلّت مكاسبه، وقُبلت عند سيده...
سبحان العليم الحكيم... تأمَّل.. كلاهما كلبٌ، بل قد يكون الكلب نفسه، وصورة القتل واحدة، ومع ذلك كانت العاقبة عل طرفَي نقيض! فحلَّت صائدة هذا، وصلُحت وطابت للأكل.. وحرُمت صائدة ذاك، وفسدت وخبُثَت عن الأكل!
هذا وهو كلب صارت له نية يمكنها أن تُحلِّل وتُحرِّم الصيد، فما بالك إذا كان بشرا؟
فإذا كان هذا حال عمل الكلب المخلوق والبهيم، مع صاحبه البشر المخلوق الفقير المحتاج إليه.. فما بالك برب البشر –سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى- الغني عن العالمين، أيتقربون إليه بفواسد النيات وطوالح الأعمال.. سبحانه؛ هو الغني ونحن الفقراء.
كان هذا حول نية الكلب وقصده، فما يُصلِحُ نية الكلب يا ترى؟ ما سيأتي حول إصلاح نية الكلب!..
فنية الكلب تصلح بالعلم؛ والعمل يصلح بهما، فمِن شَرَفِ العلم ودوره وحسن أثره في إصلاح البواطن وآثارها من الظواهر، فإنه يبلغ به إلى رفع قيمة الكلب وصلاح نيته وقبول عمله.. ففي قوله تعالى: {يسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّمِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة: 4]، و"مُكلِّبين" بمعنى مُعَلِّمين ومؤدبين، وهو تعويدهم الائتمار والانزجار والانطلاق والتوقف، وما يتعلق بإمساك الصيد وحفظه وإحضاره، و"مُكلِّب" قيل: ليس هو تفعيل من الكلْب الحيوان المعروف، وإنما هو من الكَلَب بفتح اللام؛ وهو الحرص، وينطبق على جميع أنواع الجوارح الصائدة من الكلاب والطيور..
فها قد نفع العلمُ والتعليمُ المتعلمَ، ورفعه، وجعل لأعماله القبول، بإصلاح النية وتصحيح العمل. فما تصلح نية ولا يُقبل عمل بلا علم نافع...
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَخَذَ فَكُلْ وَإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَخَذَ فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَلَا تَأْكُلْ»(الترمذي برقم: 1470، نحوه في الصحيحين)، فكان لصاحب العلم أهلية التكليف وشرف القَبول.
إن العلم هو الذي جعل الكلب يقف عند الحدود ويلتزم التعليم ويأتي الأوامر ويجتنب النواهي ويحفظ الأمانة ويلتزم النظام، والعلم النافع هو الذي أصلح نية الكلب.. فصار الكلب صالح النية صالح العمل مقبول الأثر.. بالعلم..
فكيف يصلح البشر بلا هداية من علم نافع؟!.. وهي من أنعم النعم التي أرسل الله تعالى بها رسوله وأنزل بها كتابه، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}، قال ابن القيم: "فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح. وهي {الهدى ودين الحق}".
ولاحظ- يرحمنا الله وإياك- كيف سبق العلمُ النافعُ وهو {الهُدى}، العملَ الصالحَ والدينونة الصحيحة؛ وهو {دين الحق}، لأنه بالعلم الصحيح النافع والتعليم الجيد يصلح العمل؛ سواء كان عملا قلبيا كالنية أو عملا ظاهرا.
قال الإمام البخاري: " بابٌ: العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19]، فبدأ بالعلم ".
قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} [المجادلة: 11] وقال عز وجل: {وقل رب زدني علما} [طه: 114].
هــاه... هذا ..
فكيف إذا علَّم الناس وتصدّر للتدريس من لا علم نافعا له ولا نية صالحة؟!
كيف إذا أفتى في العامة وخاض في التوقيع عن رب العالمين من لا علم له ولا نية؟!
كيف إذا تولى تربية النشء أمهات -موضيات- لا علم لهن بما يعملن ولانية؟ّ!
كيف إذا تربع على كرسي القوامة رجالٌ لا علم لهم بما يعملون ولا نية؟!
كيف إذا باق(1) في وسائل الإعلام أقوام يصنعون عقول الأمة وينحتون شخصيتها.. ولا علم لهم ولا نية؟!
كيف كيف إذا ساس الأمةَ أو قادها من علم له ولا نية؟!
كيف إذا غزى الناس أو غزى بهم من لا علم له ولا نية؟!
كيف إذا عَمَر أسواق الأمة من لا علم لهم ولا نية؟!
فكيف-إذن- يصير حال الأمة، وكيف يصير وجه الأرض.. وكم من الفساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي من لا علم لهم ولا نية؟!
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما نافعا وعملا صالحا، وأصلح نياتنا وثبِّتنا عل ذلك... يا رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- باقَ: يُقَالُ باقَ يَبُوق بَوْقاً إِذَا جاءَ بالبُوقِ، وَهُوَ الكذبُ السُّماقُ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْبَاطِلَ يُسَمَّى بُوقاً، والبُوقُ: الْبَاطِلُ؛ قَالَ حسَّان بْنُ ثَابِتٍ يَرْثي عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يَا قاتَلَ اللهُ قَوْماً كَانَ شأْنُهُمُ قَتْلَ الإِمامِ الأَمين المُسْلمِ الفَطِنِ
مَا قَتَلُوه عَلَى ذَنْب ألمَّ بِهِ إلَّا الَّذِي نطَقُوا بُوقاً، وَلَمْ يَكُنِ
انظر: لسان العرب: 10/ 30
أبو محمد بن عبد الله قدوس
21/ 02/ 2018