نحو جيل يقرأ ويكتب

إن بناء جيلٍ يقرأ ويكتب يتطلب -لا محالة- توفيرَ شروط لممارسة القراءة والكتابة، وإيجاد الفضاءات التي تمكِّن من تحقيق ذلك.

  • التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام - قضايا الشباب -

تمهيد:

إذا كانت مسألة إعدادِ جيلٍ جديدٍ تُعدُّ أولوية في انشغالات المهتمين بالتربية والتكوين؛ وذلك لردم الهوَّة الموجودة بين أجيالنا الحالية والتطور الذي يعرفه العصر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ وذلك لإيجاد مخرَج للتأخر التاريخي، الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية والإسلامية (والمغرب جزء منها)، وإذا كان حقل التربية والتكوين والمدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية هو المجال الذي يُطلَب أن تُعَدَّ فيه هذه الأجيال الجديدة: فإن الفعل التربوي التعليمي هو المسـتهدَف -أساساً- بعملية التجديد هذه، وأساساً فِعْلُ القراءة والكتابة.

فكيف نُحصِّل من الجيل الجديد الذي نروم بناءه جيلاً قارئاً وكاتباً بامتياز؟ عن أي قراءة وكتابة نتحدث؟ ماذا يتطلب فِعْل القراءة؟ وماذا يتطلب فعل الكتابة؟ وهل تخدم مناهجنا الحالية هذا الفعل؟ كيف نجعل منها فضاءات معرفية للقراءة والكتابة؟ كيف نُكسِب تلامذتنا آليات القراءة والكتابة؟ كيف نحفزهم لينخرطوا بجدية في هذا الفعل؟

إن بناء جيلٍ يقرأ ويكتب يتطلب -لا محالة- توفيرَ شروط لممارسة القراءة والكتابة، وإيجاد الفضاءات التي تمكِّن من تحقيق ذلك؛ فالفضاء الملائم لهذه الممارسة الذي يمكِّن من التربية على القراءة والكتابة هو المكتبـة بكل أصنافها، المكتبة العادية التي تضم الكتاب العاديَّ، والمكتبة متعددة الوسائط التي تفتح آفاقاً معرفية رحبة، والتي تتضمن ما أصبح يُصطَلَح عليه بالكتاب الإلكتروني القابل للتحميل والتخزين، إضافة إلى مربٍّ ومُدرّس متجدد ومجدد، منشغل بالقراءة والكتابة.

فخارج هذين الشرطين يصعب تعويد أطفالنا وشبابنا على القراءة والكتابة، ولا شك أن القراءة والكتابة تتطلب مهارات تقتضي جهداً لكي تُكتسب وتصبح ممارسة اعتيادية مألوفة لدى من يمارسها.

 

أولاً: دلالة القراءة:

تحدَّد القراءة على أنها -أساساً- مهارة لغوية أساسية في اكتساب وتعلُّم اللغة وجَمْع المعلومات واستيعابها، وأنها عمليات إدراكية تشتغل على رموز خطية قَصْدَ تحويلها إلى كلام يُسمَع ويُستوعَب من طرف المتلقي. إنها بوابة أساسية لفهم واستيعاب الخطاب الذي نتلقاه من الآخر؛ سواء كان شفهياً أو عبر وثائق مكتوبة أو مسموعة أو بصرية. إنها الفصل الذي يتيح أمام الذات إمكانية التفاعل مع الآخرين، ومع الأشياء، ومع العالم من أجل بلورة رؤىً فكريةً، أو استخلاص أفكار جديدة عبر نقد الأفكار القائمة.

وكيفما كانت نظرتنا إلى القراءة فإنها تتطلب قارئاً ومادة قرائية، وأهدافاً ومقاصدَ يتوجه إليها فعل القراءة. إننا نقرأ لنفهم، ولنعرف، ولنبلور مواقف... قد تحصل المتعة أثناء القراءة؛ خصوصاً حينما يصل القارئ إلى استيعاب حقائق أو امتلاك معارف أو استنباط خلاصات مما يقرأ، وتكون لهذه الخلاصات جدَّة. وسواء اعتبرنا القراءة فعلاً معرفياً بامتياز أو اعتبرناها مجالاً لتجزئة الوقت الفارغ وتحقيق المتعة ليس إلا، فإنها عنصر أساسي في العمل الثقافي والتربوي، فبدونها يصعب بناء معارفَ ونقلها إلى الآخرين.

 

ثانياً: الحاجة إلى القراءة:

كل من تمكَّن مِن لمِّ شتات الحروف ويستطيع التهجي فهو قادر -ولو في الحدود الدنيا- على القراءة كيفما كانت طبيعة وقيمة المادة القرائية، إنها تؤشر على إدراكنا لما تحمله الرموز المبثوثة في كل مكان من معانٍ وإشارات وتوجيهات سلوكية. نقرأ ما يُكتَب على جدران المحلات التجارية والمنشآت الصناعية وعلى اللافتات أو سبورات الإشهار أو الجرائد والمجلات والكتب أو شاشات التلفزيون، وندرك عبرها ما تحمله الكتب من تعدُّد في دلالات ومقاصد ما يكتَب، مع ما يترتب على ذلك من تعدُّد مقاصد القارئ وانتظاراته من القراءة، وكيفما كانت طبيعة القراءة ومستوى المقروء فإنها تُنتِج المعنى ويكون لها أثر في القارئ؛ سواء من حيث بناءُ الرأي أو اكتسابُ سلطة معنوية أو الاعتزازُ بالذات وتقديرها. إننا في حاجة إلى القراءة لكي نفهم ما يحيط بنا، ولكي ندرك دلالة ما يُتداوَل من رموز؛ سواء كانت لغوية أو اتخذت شكل صور وإشارات وعلامات مبثوثة في الشارع.

إن القراءة -بدون شك- مدخل أساسي لبناء المعنى ولترويجه، ومن ثَمَّ فإن تعلِّمنا كيف نستقبل الخطاب الذي يرسَل إلينا من الآخر كيفما كانت طبيعة هذا الآخر والخطاب الذي يوجهه إلينا والهدف منه، وهو ما يمكننا من إدراك معناه واستيعابه، وهو فعل يتطلب التوفر على قدرات ومهارات، فالاستقبال يتطلب حصول مهارة الاستماع التي تعدُّ أول مهارة يكتسبها الطفل عندما يخرج إلى الوجود، وتتشكل فطرياً دون تدخُّل الأبوين، أو من يتكلف برعايته، فيتعود تلقائياً على الاستماع الذي يتيح أمامه إمكانية تلقِّي المعلومات وفك رموزها ليحصل التواصل مع الآخرين وليتمكن من القيام بالفعل الذي يقتضيه هذا التواصل، كما أن القراءة تمكننا من التواصل الذي تفرضه الضرورات الاجتماعية والحياتية عموماً، فحتى الأشخاص الذين يعانون من إعاقة سمعية، ومن إعاقة في النطق أبدعوا أبجدية للتخاطب والتواصل وهي أبجدية الإشارات التي يستعملها الصم والبكم.

وإذا كانت القراءة مهارة تُتَعلم في المؤسسة التربوية وَفْق طرقٍ وأساليبَ وخطواتٍ تتيح أمام القارئ التفاعلَ الإيجابيَّ مع المادة القرائية، فإنه كلما تم تملُّك هذه المهارة، تمكَّن القارئ من توسيع أفقه الفكري ومكتسباته المعرفية، ومن ثَمَّ فالحاجة إلى القراءة تستدعيها متطلبات الحياة -وخصوصاً الراهنة- التي لم تعد تقبل بأن يحيى الشخص الذي يعاني من الأمية وَفْق ما هو مطلوب. فالقراءة تمكِّن من امتلاك المعرفة ومواجهة الحياة والفعل فيها، وإذا كانت القراءة تقود إلى هذا المسعى فإنها تساعدنا كذلك على التحكم في سيرورة الوجود وَفْق طموحاتنا وأهدافنا؛ فالقراءة هي المفتاح لكل ما هو منغلق في هذا الوجود، وبدونها لم يكن من الممكن تحقيق التطور التقني الذي يعرفه عصرنا، كما أنه بدونها لا يستطيع الأفراد أو الجماعات إحداث التطور المطلوب في العلاقات الاجتماعية والسياسية وفي الذات.

 

ثالثاً: أهمية الاهتمام بالقراءة في المجتمع:   

تعدُّ القراءة ضرورة في عصرنا الحالي فبدونها سنصبح خارجه، فضعف المقروئية يقود إلى تدهور المستوى المعرفي للإنسان، وعبره تدهور العلاقات الاجتماعية وانهيار الأخلاق، وما يترتب عن ذلك من سلوكات لا ضابط لها، وهو الشيء الذي يُضعِف قدرات الإنسان داخله، وشعوره بالدنيوية وضعف الأفق، مع ما ينجم عن ذلك من تبخيـس للعمل والجهد، وتبلور اتجاه سلبي تجاه الذات، وعدم جدوى التعاون والتآزر.

إنّ تراجع معرفة الإنسان يترتب عليه ضعف الثقة في النفس، وكلما شعر الناس داخل المجتمع بفراغ داخلي، وغياب للحوافز وألا جدوى من بذل الجهد، تراجع المجتمع برمته، وانغلقت أمامه سُبل التقدم؛ فالصراع حالياً هو صراع حول تملُّك المعرفة والتحكم فيها؛ فالذي يبني مهارات التعلم والنقد عبر القراءة يهدف من وراء ذلك إلى اكتساب المعلومات التي تفيد في ارتياد فضاء التطور العلمي التقني، الذي بدونه لا يمكن حدوث التطور المطلوب داخل المجتمع.

إن شعباً يقرأ ويكتب سيكون -لا محالة- شعباً يتفهم، ويتحاور وَفْق الضوابط العلمية للحوار، وسيكون متسامحاً، ومنتجاً في كل المجالات. صحيح أن القراءة تتطلب مهارات، ومُكتسبات معرفية سابقة، وأنه كلما تقدمنا في استيعاب المقروء وإدراكه أصبحت القراءة أكثر جدوى، وأكثر فاعلية. لكن هذه القراءة تختلف حسب طبيعة المادة القرائية والأهداف منها، وانتظارات القارئ والمجتمع من القراءة؛ فالمجتمع الذي يسعى إلى إعداد أجيال متشبّعة بالمعرفة، وخصوصاً المعرفة التي تقود إلى تملُّك أدوات ومنهجيات التفكير العلمي الذي تتطلبه التقنية في كل الحقول (الخدماتية والمنتجة)، هي المعرفة المطلوبة حالياً.

المجتمع يزخر بعدد كبير من المواد القرائية التي تتيحها الكتب والمجلات والجرائد وأدوات الثقافة الإلكترونية، ويكفي لتحقيق مبتغى القراءة أن تضطلع كل المؤسسات بمسؤوليتها في تربية الناس على القراءة، وتمهيرهم على التعامل مع كل مصادر المعرفة وآلياتها، والانتقال إلى إنتاج خطابات مسموعة ومكتوبة وإلكترونية، تُمكِّن من تحقيق التراكم اللازم لتجاوز أسباب التخلف والتأخر الذي يعاني منه، وذلك عبر المؤسسات التربوية والثقافية وعلى رأسها المدرسة.

 

رابعاً: المدرسة وتطوير الاهتمام بالقراءة والكتابة:

تعدُّ المدرسةُ المؤسسةَ التربويةَ التي يَعهد إليها المجتمع بالعملية التربوية وتكوين الطلاب، ويوجد في صلب اهتماماتها مسألة تمكين المتعلم من مهارات القراءة والكتابة؛ فالمناهج المتوفرة في المدرسة تتيح تملُّك مهارات، وذلك عبر دروس مخصصة لذلك تستهدف إقدار الطلاب على التمرس على القراءة في كل أشكالها (الصامتة أو الجهرية)؛ قصد تحقيق المرجوِّ منها، وهو المتمثل في استيعاب المقروء والقدرة على التصرف فيه، وإيصال المعنى والتأثير في المُتلقّي وعَبرَه في المجتمع، وهذا لا يتم إلا بتخصيص حصص لتملُّك مهارات القراءة والكتابة؛ وذلك بتنويع المقروء وتمهيد الطلاب على الاستماع والتعبير. ويُقر الباحثون أن هناك تقنيات تلائم كل فئة عمرية يمكن حصرها في ما يلي:

• بخصوص القارئ: يطلب منه أن يتمرس على طريقة الوقوف أثناء القراءة.

• التخلص من الخجل، واعتدال الوقفة لتجنُّب التشتت الذهني.

• التركيز على المخاطب بالنظر إلى عينيه.

•  تجويد الصوت.

وتُعلِّمنا دروس القراءة العادية للنصوص: كيف تتدرج من المبنى إلى المعنى، وكيف نوظف مكتسباتنا المعرفية، من أجل فهم واستيعاب المقروء، وكيفية تلخيص النص وضبط قضيته الأساسية، والقضايا التي يعرفها عبرها، وكيفية تقديم هذه القضية منهجياً، واستدلال النص عليها (حجاجة) كما يُشترط في المادة المقروءة أن تتميز بالسهولة واليسر، وبساطة تركيبها وأسلوبها ليتمكن المتعلم من التمرس عبرها على القراءة، وأن تستجيب لميولات المتعلم لتمكِّن من تحفيز الطلاب على الإقبال على القراءة.

أكيدٌ أن خَلْق أُلفَة بين القارئ والمقروء تشترط مادة قرائية تلبِّي حاجات القارئ وتحقِّق لديه الاستدامة في القراءة؛ وذلك بتقديم جزاءٍ يتمثل في جائزة تقديرية لأحسن مُلخَّص لما يُقرأ، أو اصطحابهم إلى المكتبات والمعارض، وإنشاء مكتبة خاصة في البيت، وتحسيسهم بأن القراءة انشغال جوهري في حياتهم وليس هواية تمارَس أثناء أوقات الفراغ، وهناك من يلتجئ إلى العقاب بالقراءة. وإذا كانت القراءة تعدُّ مدخلاً أساسياً للتعلم، فإن الكتابة هي بُعدٌ آخر فيها؛ لأننا ننتقل بواسطة القراءة إلى تدوين المقروء والتصرف فيه، بالتلخيص أو التعليق أو التحليل أو المناقشة أو إنتاج نص على غرار النص المقروء؛ سواء من حيث محاكاةُ أسلوبه، أو بناءُ نص على شاكلته، وإذا كانت الوظيفة الأساسية للمدرسة هي توفير الشروط التربوية اللازمة للقراءة، فإن الكتابة تعدُّ ملازِمة لها، وتتطلب كذلك تمهيراً عبر حصص تُدرَج في الزمن المدرسي تتعلق بالإنشاء والتعبير الكتابي والشّفهي، إن لم نقل بأن الكتابة مرتبطة بالأنشطة اليومية داخل المدرسة؛ فعلى التلميذ أن يكتب الملخَّص، وأن يجيب عن التمارين، وأن يأخذ النقاط أحياناً، ويدوِّن بشكل مسترسل ما يتلقاه وما يقرؤه، فنحن نقرأ لنكتب ونكتب لنقرأ. 

 

الكاتب: د. العربي محمد الإدريسي.