صنفان من الناس... نعوذ بالله منهما

أبو محمد بن عبد الله

صنفٌ..أول دليل يقرأه أو يسمعه في المسألة أو حتى يسمع قولا بلا دليل، فيتمكن ذلك (الأول) من قلبه وينغلق عليه عقله، فمهما حدَّثته بعد ذلك بدليل أو معقول فكأنما يقول لها: لا مقام لكم فارجعوا! وصنفٌ آخر.. عكس فعمِل بالآخِر...

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

بعض الناس ضعيف الشخصية، يضع نفسه أو يُوضع في موقع الحكم، بين الناس سواء بين علماء في مسألة فقهية مختلف فيها، أو بين مختصمين في قضية شجرت بينهما... بل حتى بين أولاده إذا اختصموا.. الشاكي الأول دائمًا مُحِقٌّ، وكأن السبق دليل، لا كما قيل: ضربني وبكى، ثم سبقني واشتكى!!
دائما يحدث له كمن قيل فيه:

أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... فصادفَ قلبًا فارغًا فتمكَّنا

وكأنه المقصود بها شخصًا!
فأول دليل يقرأه أو يسمعه في المسألة أو حتى يسمع قولا بلا دليل، فيتمكن ذلك (الأول) من قلبه وينغلق عليه عقله، فمهما حدَّثته بعد ذلك بدليل أو معقول فكأنما يقول لها: لا مقام لكم فارجعوا!! (ثم يعمل فيها نفسو عالم فقه المقارن...)
وإذا اشتكى إليه مختصمٌ فأولُ الشكوى (حق) وصاحبها (مُحِقٌّ)، وهو ضحية مظلوم بعينه التي اقْتُلِعَت، ولكن الخصم المتهم قد اقْتُلِعَت عيناه!! ومهما اقتِيدَ له أبو العينين وأدلى بعينين مقتلعتين؛ فأبو العين هو المحق المظلوم المضرور!!... لسبق الشكوى.. بل لسبق التمكن من الهوى الفارغ.. (ثم يعمل فيها نفسو قاضي!..).

وعلى النقيض صنف آخر مثل هذا، ولكنه في الاتجاه المعاكس.. مهما قرأ من دليل أو معقول عند أول فقيه، أو سمع شكوى من شاكٍ مختصم، مهما قوَت حُجتُه أو تكسَّرت عِظامه وفُقئت عيناه.. فما إن يقرأ للثاني أو يسمع منه إلَّا ويصبح هو الفقيه الحاجّ أو الضحية المظلوم أو الشاكي المُحق، بينما الأول محجوجٌ مَحيق([1]).

صنف آخر يقدس التقاليد، فحتى الدين يغربله على تقاليده، فيقبل منه ما وافقها، ويرد منه ما خالفها، لأنه بدعة مُحدثة بالنسبة لتقاليده، حتى لكأنه معني بقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22]، فهم الجامدون على القديم أبدًا، إلا فيما زيَّنه الشيطان!
وها قد جاءتهم رسل الله تعالى بالحق الأبلج، والذي يهدي للتي هي أقوم، مع ذلك هم باقون على القديم.. {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[23-24].

الكبريت الأحمر

وكما يقال عن الشيء النادر القليل: هذا "أندر من الكبريت الأحمر"، وأفضل منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» (البخاري في صحيحه، برقم: (6498)]، هذا النوع هو الذي يقف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: تبعثني إلى قوم ذوي أسنان وأنا حدث السن. قال: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول» [الحاكم في مستدركه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم:(473)]، أو كما روى ابن حزم - رحمه الله - عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: " أتى عمر بن الخطاب رجل قد فُقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خصمك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى؟  فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معا، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء"[المحلى، 10/ 518].

مشكلة وأشكَل

وليست المشكلة فقط في كون الطالب أو من أرد أن يحكم بين قوم أو يصلح بين مختصمين، في أنه لم يسمع كاملا للطرفين كليهما، فإن هذا ردٌّ حكمه سهل ميسور عند كل من له عقل، بل الأشْكل من ذلك حين يسمع أو يقرأ بقلة فهم أو سوء قصد أو سابق تقرير وإصرار،  قال ابن القيم: (صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعْطِيَ عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم؛ الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين؛ الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنا أن نسأل اللهَ أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهُدَى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحرِّي الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباعُ الهوى، وإيثارُ الدنيا، وطلَبَ محمدةِ الخَلْقِ، وتَرْكَ التقوى)[إعلام الموقعين، 1/ 69].
ولعلنا نذكر هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة» (الترمذي، السنن، رقم: [605]).
لذلك كان الحكم – بأنواعه- أمانة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
[1] - الحاجّ: مِن حجَّه يحجّه، أي يغلبه بالحجة، كما قال نبي-صلى الله عليه وسلم: (فحجَّ آدمُ موسى)، والمَحيق: الممحوق المدموغ!، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: 141].

‏20/‏رجب/‏1439