حاجة طالب العلم للأسوة

سعيد بن محمد الكملي

الأسوة في باب التعليم ضرورية، كلكم إن شاء الله يعلم قولة أم مالك لمالك: "يا بني خذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه".

  • التصنيفات: تزكية النفس - طلب العلم -

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فضل العلم وفضل أهله معروف لا يُجحد، مشهور لا ينكر. يكفي طالب العلم أن ينظر في مثل كتاب ابن عبد البر رحمة الله عليه (جامع بيان العلم وفضله) ليَروى بعد ظمأه، وليَعِلّ بعد نهمه.

وقد كنت ذكرت طرفا من الآيات والأحاديث المتعلقة بهذا في محاضرة مضت، لكنْ الكِبريتُ الأحمر وبَيْضَ الأَنُوق أن يظفر الطالب بالأُسوة التي يرى فيها تلك الآيات شاخصة، وتلك الأحاديث بارزة، فمهما ثقِفها الطالب ولو كانت مناط الثُّريا فلا يدعها. 

والأسوة في باب التعليم ضرورية، كلكم إن شاء الله يعلم قولة أم مالك لمالك لما هيّأته ليذهب إلى مجلس ربيعة بن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي، وقالت له: "يا بني خذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه".

أنتم تعلمون أن الأقوام الذين بعثت إليهم الرسل كانوا يطلبون رسلا ملائكة، وإنما كانت تأتيهم الرسل: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8-9]. 

ولذلك ذكروا من حِكم كون الرسل من جنس المرسل إليهم أن يتأتى الائتساء بهم. الله سبحانه وتعالى يقول في سورة يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ} [يوسف من الآية:109]. 
وقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقال في سورة ابراهيم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ } [إبراهيم من الآية:11]. 
وقال في سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
وقال في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6].

أي الآيات وما في معناها تنص على مثلية الرسول إلى من أُرسل إليه. لماذا؟ لتُمْكن الأسوة. مع أننا نقول كون الرسل مثل من أُرسل إليهم، هذا يجليه أحد العلماء بقوله: "وعَدُّنا الرسل من جنس البشر، كعدنا الياقوت من جنس الحجر".

ولذلك كان مما رد به العلماء على النصارى ادعاءهم ألوهية المسيح عليه السلام أنهم قالوا: الرسل تُبعث للاقتداء، والنصارى زعموا أن المسيح عليه السلام إله أو ابن إله. النصارى ليسوا وتيرة واحدة وليسوا معتقدا واحدا وليس كل النصارى يعتقدون التثليث لكنهم لا يخلُون إما أن يقولوا هو إله أو هو ابن إله. رد عليهم العلماء بقولهم: "كيف يمكن الاقتداء بابن إله؟ لو قيل افعلوا كما فعل المسيح لكان للنصارى حجة أن يقولوا: من يستطيع أن يفعل مثل ما فعل وهو إله أو ابن إله؟". فكان هذا مما رد به علماء المسلمين على النصارى هذه الدعوى.

لِمَا تقدم من أهمية الأسوة رأيت أن أذكر لكم بعض ما وقع للعلماء مع العلم لتَرِيَ العزائم، وتُحكَمَ الصرائم، ويجري مُنْجَرِدُكَ أيها الطالب فلا يكبو وتأجَّجُ ناره فلا يخبو، وتكون فِراسِيَّ المذهب يُنشد لسان حالك:

ونحن أُناسٌ لا توسّـطَ عندنا *** لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر
تهونُ علينا في المعالي نفوسُنا *** ومن يخْطُب الحسناءَ لم يُغْلِه المهر

أكثر هؤلاء العلماء إن كانوا فاتونا بأنفسهم فلم يفوتونا بأنفاسهم.

جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهم *** بعد الممات جمال الكُتْبِ والسّير

لكن اعلم -أيها الطالب- أنّك لن تدرك العلم إلا بأمور. وأنا هنا لا أريد أن أذكر لكم البيت الذي تعرفه جملة صالحة منكم: "أخي لن تنال العلم...". هذا البيت تُنُوزِع فيه، فمنهم من ينسبه للشافعي ومنهم من ينسبه لأبي المعالي الجويني ببعض اختلاف ألفاظ:

أَصِخ لن تنال العلم إلا بستة *** سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغــة *** وتلقين أستاذ وطول زمان

وهذان البيتان قد شُرحا وعُلِما، لكن أريد أن أَذكر أن شيئا مُهمّا لستَ بشيء إن لم يكن عندك، هذا الشيء ما هو؟ هو الهمّة، ولا أعني مطلق الهمة. مطلق الهمة سأبين لكم أنها عند كل أحد، لكنني أقصد الهمة القَعْسَاء، الحرص الموطود، التّطلع الراسخ الشامخ إلى تحصيل العلم، حتى لكأنك أيها الطالب المعنِيّ بقول المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام

جسمك لا يقوى على متابعة نفسك في  السعي نحو معالي المعالي. فيكون العلم شغلك، وتحصيله فكرك، ومدارسته هَمّك، وفوات حظك منه حسرتك، تهيم بمسائله كما يهيم العاشق بمعشوقه، وقد أعجبني واحد منهم -أحد العاشقين- يُصوّر حاله، معشوقه لايغيب عن باله حتى قال:

أآخر شيء أنتِ في كل هجعة **** وأول شيء أنتِ عند هبوبي.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.