الوطن الأعظم.. الأول والأخير
أبو محمد بن عبد الله
عادة الغريب أن يعود إلى وطنه شوقا وحنينًا، يحث الخطى ويحاذر العطب، حتى يصل إلى وطنه سالما معافى، ليَتم له فرحُه فيه مع أحبابه وذويه، ويُمَتِّع عيونه بالنظر إلى ربوعه.
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام عل رسول الله
هذا الوطن الأوسط، فيه الراحة والتعب، فيه السعادة والشقاوة، في الضعف والقوة، فيه الفقر والغنى، في التخمة والبؤس..
وهو محطة استظلال سرعان من تنقضي، لا تتجاوز في حقيقتها قيلولة المسافر تحت ظل شجرة، ثم ينفض ثيباه من غبارها، ويرتحل... إنها الحاضرة، إن القريبة.. إنها الدانية، دانية الحضور، ودانية النهاية.. إنها الدنيا، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم- «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ؛ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» الترمذي في سننه برقم: 2377.
ولذلك يوصي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن عمر- رضي الله عنهما- «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر، يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» البخاري (6416)...
وعادة الغريب أن يعود إلى وطنه شوقا وحنينًا، يحث الخطى ويحاذر العطب، حتى يصل إلى وطنه سالما معافى، ليَتم له فرحُه فيه مع أحبابه وذويه، ويُمَتِّع عيونه بالنظر إلى ربوعه.
إن وطننا الأعظم، هووطننا الأول وهو الوطن الذي سكنه الأبوان أوّلًا، وهما يسكناه الآن، إنه الجنة، دار السلامة والمقام، فأعظمُ حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكن الأبوين ودار الخلد والنعيم.
و" إذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين. فأحدهما: أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همه مرمة جهازه. ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم، قال الحسن: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن، وللناس شأن. لما خلق آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطا منها ووعدا بالرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول، وحب الوطن من الإيمان" ابن رجب الحنبلي، جامع العوم والحِكَم، 2/378..
وقد أنشد ابن قيم-رحمه الله- في قصيدة طويلة أنشدها في مقدمة كتابه "حادي الأرواح" ص 23.:
فحـــيَّ على جنات عــــــدنٍ فإنّهـا منـــازلُـــــك الأُولى وفيها المُخَيَّمُ
ولكنّنا سبْــــــــــيُ العدوِّ فهل تـرى نعــــــــــودُ إلـــى أوطــانـنا ونُــسلّـم
وقد زعموا أن الغريب إذا نَــــأى وشطَّـــت به أوطانُه فـهو مُغــرَمُ
وأيُّ اغترابٍ فوق غربتنا التي لهــا أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
ولا تعارُضَ أبدًا بين حب وطن الدنيا ووطن الآخرة، وإنما نسير على مقتضى قول الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ( القصص: 77).
بل إن خدمتك لهذا الوطن الدنيوي، وأنت تنظر إلى جزاء عملك هذا في الآخرة، يجعلك تحسن كل الإحسان، وتتقن كل الإتقان، وتبتغي بعملك هذا هنا، جزاء الله لك هناك، لأن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، والإحسان إلى إنسانها وحيوانها عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله-سبحانه-.. والله أعلم