حاجة الناس إلى الدين

عبد الفتاح آدم المقدشي

وهب أن شخصاً ما تمتَّع في هذه الحياة بألذَّ الطعام والشَّرب وسائر الشَّهوات مائة سنة ثم مات ولكن بعد موته دخل عذاب الله وسخط الجبَّار إلى ما لا نهاية خالداً مخلداً فيها ...

  • التصنيفات: تربية النفس - قضايا إسلامية معاصرة -

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله


ممَّا لا شك فيه أن النَّاس بحاجةٍ إلى الدّين الحق أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب , إذ أعظم ما قد يُسبِّب فقد الطعام أو الشراب إنمَّا هو الموت ولكن بعد الموت إذا دخل الإنسان إلى رضوان الله وجنَّته إلى ما لا نهاية خالداً مخلداً فيها فماذا يضيره؟!.                                                          

وهب أن شخصاً ما تمتَّع في هذه الحياة بألذَّ الطعام والشَّرب وسائر الشَّهوات مائة سنة ثم مات ولكن بعد موته دخل عذاب الله وسخط الجبَّار إلى ما لا نهاية خالداً مخلداً فيها فبالله ماذا أفاده الطَّعام والشّراب وسائر الشَّهوات؟!!

في الحديث "حدثنا عمرو الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط» (رواه مسلم  رحمه الله في صحيحه برقم [2807]) .  

وهب أن إنساناً ما كان له قصورٌ ونساء وولدانٌ وبساتين وسائر ملذات الدنيا ثمَّ أصابته جائحةٌ بماله فأذهبته ثم أصابته مصيبةٌ أخرى فأهلكت نساءه وولدانه ثم أصابته مصيبةٌ أخرى فذهبت برجليه وبعض أعضاءه الأخرى ولكنه بقي صامداً أمام هذه الابتلاءات صابراً لله ولدينه الحق كما لم يُصَب بشيء في دينه لكونه أنجاه الله بنعمة صبره لدينه إذ الدين هو الرأسمال الحقيقي , فهو - بحمد الله -  لم يمت فزعاً ولا أصابه جنونٌ ولا مرضٌ نفسي أو غيره بل قد أنجاه الله بنعمة شكره لله كما قال تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ . نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [ القمر: 34-35] .                                    

وهناك مثلاً أُناس طلبوا الدنيا فعبَّروا المحيطات والصحارى وسافروا إلى بلاد الكفر فأصابوا بعرضٍ من الدنيا ولكن اشتُرِط لهم بأن يتركوا دينهم فرضوا بذلك فتركوا دينهم الحق.       

وقد يكون هناك مثلاً شخصٌ يقال له أن تجارته في سفينة كذا غرقت فيموت فزعاً لذلك, وقد قرأت كتاب أسباب السعادة للسعدي رحمه الله قصة مثل هذا..

وهناك شخصٌ آخر سمعته في بلادنا قيل له : أن سيارته المحمَّلة في بضائع كذا وكذا وقعت في نهر كذا فمات فزعاً لذلك وقد يكون من القصص أمثال ذلك كثير.

أما مثل هذا الشخص - المشار إليه آنقا - الذي صبر لله متمسِّكا بدينه الحق فهذا شخصٌ كاد أن يكون له صبرٌ كصبر أيوب عليه السلام فسيسعد بلا شكِ كما سعد عليه السلام,  وقد مثَّله الله لنا في سورة الأنبياء في قصته عليه السلام  ليكون لمن خلفة نبراساً يستضيئون به في حوالك الأمور ويقتدون به لأسوته الحسنة  , فمن أصابته مصيبة أقل من ذلك فمن باب الأولى والأحرى أن يصبر ويصابر نفسه كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83] .                                                    

وعلى العموم لابد للإنسان أن يفهم قيمة دينه الحق وحاجته إليه,  إذ كرامة الله للشخص لا تأتي إلا بعد أن يُحقّق عبادة الله وحده وتقوى الله عز وجل , أما الدليل بالنسبة للعبادة فكما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]ٍ . 

بل أعظم درجة التشريف إنما هي الاتصاف بالعبودية كما وصف الله رسوله حين أسراه إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله أنه عبده, نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينقذه من الأيدي النجسة لليهود إخوان القردة والخنزير لعنهم الله. كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1] .

أما الدليل بالنسبة للتقوى فكما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [ الحجرات: 13] .

أما قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]  فهذه الآية المقصود منها الكلام من أصل الخِلقة وليس كما هو واقع الناس بعد إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم وحملهم عليهم الأمانة .

فدين الحق وحمل الأمانات هي التي فرَّقت بين الناس بين كريمٍ يكون أكرم من الملائكة وبين وضيعِ يكون أخس من الأنعام كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [ الفرقان: 44] .

وإنما يُنال بنعم الدنيا قبل الآخرة برعاية هذه العبادات والأمانات كما قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] .                          

وإنما يُفقد النعم ويُصاب الإنسان بالمصائب بكفر نعم الله عليه وتبديلها أيضا بالبطر والطغيان والتنكر بالحق والإتباع بالمبادئ الباطلة الهدَّامة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم: 28-29] .

وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل : 112] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ . وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ . فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 15-19]  .

والعاقل هو الذي  يعتبر بمصائب الآخرين خشية أن يصيبه ما أصابهم.

إذاً نطلب من المسلمين أن يتوبوا جميعا إلى الله ليفلحوا ويرجعوا إلى دينهم الحق  بالعلم لأن الجاهل أصلا لا يعلم ما يذر مما يأخذ كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31 ] .   

كما أطلب منهم أن يتغيَّروا ليغيِّر الله خوفهم أمناً وقحطهم رخاءاً وذلهم عزاً ولو عاش بعضهم برخاءٍ موهومٍ فإن الذلة أمام الأعداء نقمة ما بعدها نقمة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد : 11] .    

أما إن عادوا إلى الطغيان مرة أخرى فسيعيد الله عليهم بأسه وغضبه  {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]  .

وسأذكر في المقال القادم المعوِّقات والفتن المشهورة التي صرفت الناس عن دين الحق في هذا الزمان إن شاء الله تعالى .

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف : 21] .