عظم كلمة الحق ( المقال الرابع )

عبد الفتاح آدم المقدشي

الميزة الأخرة هي أن أهل الحق الصادقين عند مليك مقتدر وهو الله سبحانه وجل جلاله, يا الله, فما أعظمها من نعمة للإنسان الذي يتشبث بالحق ولا ينظر إلى غيره.

  • التصنيفات: التصنيف العام - الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -

بسم الله الرحمن الرحيم..

تابع للمعالم التي يعرف بها الحق:

الخامس: يُعرف الحق بالثبوت وعدم التغيُّر لكونه أُنزل بعلم الله الخالق قال تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14]..

لذلك ترى الشروع الباطلة تتعرض بين الفينة والأخرى الشطب والتعديل والتغيير إلى ما لا نهاية لأنها من وضع مخلوقٍ ضعيفٍ ووضعت بمحض الجهل, قال تعالى{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}[ق: 5]..

 

السادس:  أن يكون الحق آتيا من الله عز وجل وذلك لقوله تعالى{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف: 29]..

 

ويُعرف ذلك بجذالة كلماته وقيمة  معانيه , ولذلك تجد كلمات الحق رصينة جذَّابة بينما تجد كلام غيره ركيكة فاحشة لا قيمة لها.

 

"وَمِنْ هُنَا كَانَ الْعُقَلَاءُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، عَرَفُوا أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَإِذَا سَمِعُوا كَلَامَ مُسَيْلِمَةَ، عَرَفُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سَمِعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَدَّعِي أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: يَا وَبْرُ يَا وَبْرُ، لَكَ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا عَمْرُو، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ.

 

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: صَوِّرْ مَا شِئْتَ فِي قَلْبِكَ، وَتَفَكَّرْ فِيهِ، ثُمَّ قِسْهُ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا مَيَّزْتَ بَيْنَهُمَا، عَرَفْتَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالصِّدْقَ مِنَ الْكَذِبِ، قَالَ: كَأَنَّكَ تُصَوِّرُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَقْرَأُ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 164)، ثُمَّ تَتَصَوَّرُ ضِدَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُهُ مُسَيْلِمَةَ، فَتَتَفَكَّرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَتَقْرَأُ: أَلَا يَا رَبَّةَ الْمَخْدَعْ قَدْ هُيِّئَ لَكِ الْمَضْجَعْ يَعْنِي قَوْلَهُ لِسِجَاحَ حِينَ تَزَوَّجَ بِهَا، قَالَ: فَتَرَى هَذَا - يَعْنِي الْقُرْآنَ - رَصِينًا عَجِيبًا، يَلُوطُ بِالْقَلْبِ، وَيَحْسُنُ فِي السَّمْعِ، وَتَرَى ذَا - يَعْنِي قَوْلَ مُسَيْلِمَةَ - بَارِدًا غَثًّا فَاحِشًا، فَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ أُتِيَ بِوَحْيٍ، وَأَنَّ مُسَيْلِمَةَ كَذَّابٌ أُتِيَ بِبَاطِلٍ.انتهى. أنظر جامع العلوم والحكم 1/ 306))

 

السابع: قدرة الله وخلقه وعلمه التام  تدلك على أنه الحق  جاء منه وحده كما قال تعالى{ألا له الخلق والأمر} كما أن الله سبحانه له الخلق وحده وهو الحق الذي لا يمكن أن ينكره أحدٌ إلا من غُلب على قلبه فكذلك له الأمر والحكم.

 

فالذي له الخلق أحق أن يُسنَد إليه الحكم  وهو الله جلَّ جلاله لكونه أحق لعلمه التام لخلقه ولقدرته الكاملة لصنعته كما قال تعالى{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14]..

 

وقال تعالى{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى:10-12 ]..

 

ففي هذه لآيات في سورة الشورى ترى فيها أن الله سبحانه يُبيَّن لنا ضرورة التحاكم إليه عند الاختلاف كما وجَّهنا إلى التأمُّل والتَّطلع إلى خلقه من السموات والأرضين وأن له مقاليد السموات والأرض يبسط الأرزاق بإرداته لمن يشاء ويقدر وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير... , ومما لا شك فيه أن الله  سبحانه كل ذلك ما أتى به إلا ليُلفتنا وليُعلِّمنا حقائق قد نغفل عنها لكي يعلم العباد من له حق الحكم وهو الله جل جلاله ليعبدوه حق العبادة.

 

الثامن: أن يكون أهله أي أهل الحق قاصدين لله إذ الحق مبنى بالإخلاص وهو سمة كبيرة من سماته الظاهرة للحق , وكل ما ظهر منه أنه لغير قصد وجه الله وشابت فيه شوائب الدنيا فاعلم أنه على باطل  فعلى سبيل المثال  طائفة من طوائف المسلمين أعلنوا الجهاد في سبيل الله وأقاموا علم الجهاد ولكنهم لم يسمحوا إلا لقبيلتهم أو لجنسيتهم أو إنما أعلنوا الجهاد بعدما خافوا على ملكهم كما فعل صدام حصين إبان حروب الخليج وقد كان بعثي أو تركوا مثلاً تطبيق شرع الله في جهادهم كتقسيم المغانم المستحقة على المجاهدين كلهم فاستأثر مثلاً تلك الغنائم رؤساءهم أوتركوا تطبيق شرع الله في أماكنهم كترك تقسيم الزكوات كما أمره الله أو تكرَّموا محاباة لبعض الأمراء بالأموال الطائلة أو لأفرادٍ معينين كأن يعطوا بعض الناس الذين يخافون من تأثيرهم كرعاية سياسة الملك مع عدم الرحمة للخلق خصوصاً الضعفاء منهم والمتضررين.

 

ومن ذلك أيضاً جمع المكوس والمظالم وجباية أموال الناس بغير حق   أو غير ذلك من الأمارات التي تنبؤ أن رافعي هذه الرآيات ليسوا مخلصين في أعمالهم وبالتالي ليسوا على طريقهم إلى نصر الحق بل للباطل وإن كانت قد تقع تلك الأخطاء عن جهلٍ أو تأويلات في ظروف معينة يذكرونها أو غيره ولكن من الأخطاء ما لا تحتمل جهلاً ولا تأويلاً كتخصيص المجاهدين في قبيلة معينة أو جنسية معينة مثلا أو كإعلان الجهاد في حالة خوفٍ من عدوٍ مهاجمٍ فحسب  ولذلك قد يخطف ثمار مثل هؤلاء أعداء الله, والعياذ بالله.

 

واعلم أن نصر الحق  ينبني به إيمان المسلمين كما سيكتسبون به تأييد الله لهم على عدوهم ليكونوا ظاهرين غالبين منتصرين كما أن خذلان الحق وأهله ينتج من ذلك كفر المخذلين بدينهم الحق والإسلام لذلك سيستحوذ عليهم الشيطان لينسوا ذكر الله  كما سيخسرن  في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[ الصف:14 ]

 

ومن طبائع ناصري الحق أنهم لا يمكن أن يوادوا من حادَّ الله ورسوله كما أنهم يستبينون سبيل المجرمين بل  يبتعدون عنهم أشد الابتعاد ويتبرؤون عنهم أشد البراءة ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم لذلك يكتب الله في قلوبهم الإيمان ويؤيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتهم الأنهار ويرضى الله عنهم ويرضون عنه فهم إذن حزب الله المفلحين كما وصفهم الله بهذه الأوصاف في آخر سورة المحادلة.

 

وهكذا فهم يعلمون أن أهل الحق مبتلون ولكنهم منصورون إن عاجلا أو آجلا كما يعلمون من كان معه الله جل جلاله لا يُخذل وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وأن الله سبحانه كتب في الزبور أن الأرص يرثها عباده الصالحون.  وأن الآيات الكثيرات في القرآن الكريم في وعد الله أنه سينصر عباده القائمين بما أوجبه الله عليهم  من الإيمان والعمل الصالح لا يمكن أن لا تنفذ وهو الغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون,

 

فمهما طغى الكفار وتجبَّروا  وتطوَّروا في تصنيع الأسلحة وغيره فإن الله لهم بالمرصاد وليذيقنَّهم عذابه الأدنى دون العذاب الأكبر  كما قال تعالى {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} الآيات [القمر: 43-46]  ومهما ادَّعوا التوحُّد وأنهم صفٌ واحد على عدوِّهم الإسلام فإنهم لا يزالون يختلفون فيما بينهم ويتربص بعضهم لبعص الآخر بالدوائر ماداموا قد اجتمعوا على باطلِ وأن الباطل لا محالة سيزهق وسيزول وسيضمحل أمام الحق كما قال تعالى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] وقال تعالى {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49 ]وقال تعالى {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18 ]

 

وأما زور توحُّدهم وزيفه فواضح في قوله تعالى {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]

 

وقال تعالى {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [فاطر:10 ]

 

بالإضافة إلى ذلك  قد وعد الله سبحانه أن لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا  كما قال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ولكن أقول لك باختصارٍ شديد: إئت لي بمؤمنين حق الإيمان مطبِّقين كتاب الله حرفيّاً فإني أعدك أن عيونك ستقر بظهور المسلمين على الكافرين كما لا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا أبداً.

 

التاسع: أن يكون صادقاً أي لابد أن يبدأ العمل للإسلام بقدم صدقٍ بمعنى بالتقدم بالصدق لأن القدم هي التي تسبق بالمرء وتقدمه.

أما إذا كان تقدمهم بالكذب فلا يتقدم الناس بالكذب أبداً بل سيتخلفون ويضيعون في أودية الهلاك.

 

وفي النهاية بلا شكٍ أهل الصدق والحق ينتهون في مقعد صدقٍ  عند مليكٍ مقتدرٍ وهي الجنة

 

إذ هذا المقعد لا يُسمع فيه كذَّاب ولا كلام لاغي ولا تأثيم بل فيه راحة تامة أتم الراحة لأنه لا أحد هناك أصلاً يكذب.

 

وقد تتأذى - أيها العبد المؤمن - في هذه الدنيا بأن يُكذِّب الناس كلامك الصادق أو ينسبوا كلامك لاغياً أو ساقطاً أو تأثيماً فضلاً من أن يبتليك الله بمن يأتونك بأخلاقٍ سافلة.

 

ثم الميزة الأخرة هي أن أهل الحق الصادقين عند مليك مقتدر وهو الله سبحانه وجل جلاله, يا الله, فما أعظمها من نعمة للإنسان الذي يتشبث بالحق ولا ينظر إلى غيره.

 

وبقية المعالم ستأتي تباعاً إن شاء الله تعالى في المقالات القادمة