رحمة الله التي تتجلى في سورة الكهف
عبد الفتاح آدم المقدشي
كان أول ما طلبه الفتية هو أن يؤتيهم الله رحمة من عنده ثم قالوا: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، إذ من لم يؤته الله رحمة من عنده لا يمكن أن يهيّء الله له من أمره رشداً.
- التصنيفات: أعمال القلوب - الطريق إلى الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،
قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
فكما ترى كان أول ما طلبه الفتية هو أن يؤتيهم الله رحمة من عنده ثم قالوا: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}، إذ من لم يؤته الله رحمة من عنده لا يمكن أن يهيّء الله له من أمره رشداً.
وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى:8].
فالداخلون في رحمته هم المُوفَّقون المستقيمون على الصراط المستقيم.
وأيضاً قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [ الإنسان:30-31].
وهكذا الداخلون في رحمة الله بلا شكٍ هم الناجون من الظلم والعذاب الأليم.
ولذلك لابد لهم من إيمان ٍكاملٍ وتوحيدٍ خالصٍ، وهو ما فعله فتية أصحاب الكهف، فقد قال الله سبحانه منوِّهاً أول صفاتهم وفضائلهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [ الكهف من الآية:13].
وقد كانت أول ثمرة إيمانهم الصادق أن زادهم الله هدى بعد هداهم الأول. كما أثنى الله سبحانه على أهل الإيمان الصادقين من هذه الأمة الواعين للعلم بأن زادهم هدى بعد هداهم الأول وآتاهم تقواهم، كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:16-17].
أما غير المرحومين فهم المُعرضون عن الإيمان والعلم المتَّبعي أهواءهم. والمقصود من الآية هو التَّنويه لطبائع المنافقين السافلة ولكن - في الحقيقة - تجر بذيلها عصاة المسلمين، وقد قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
فبمجرد الإعراض عن الاستماع للقرآن والانصات له يُسبِّب فَقَدَ رحمة الله كما ترى.
أما ثاني ثمرة صفات أصحاب الكهف فهو رباط قلوبهم وذلك: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف من الآية:14].
فهم حين حقَّقوا توحيد الربوبية في قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وحقَّقوا توحيد العبودية في قولهم: {لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا} وحقَّقوا التشبث بالحق ووثقوا بربهم أتمَّ الوثوق في قولهم: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، ألا يستحقون أن يربط الله قلوبهم وتنهال عليهم رحمات الله وبركاته من كل صوب؟! بلى والأمر كذلك.
ثم يتساءل الفتية متعجِّبين ومُثبِّتين حجتهم التي ذهبوا إليها فأثبتوا أن الطغاة أصلاً لا حجة لهم في شركهم كما أنهم أظلم الناس لافتراءهم على الله كذباً كما قال تعالى: {هَـٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا} [الكهف:15].
ولذلك اعتزلوهم وشرورهم وما يعبدون من دون الله واثقين بربِّهم الرحيم وقائلين: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} [ الكهف من الآية:16].
وهل رأيت توكلاً بالمولى العظيم ووثوقاً بالربِّ العزيز والاعتماد على الرحيم أشد من أن يأوي موحِّدون إلى كهفٍ مُوحشٍ مظلمٍ ليس فيه أصلاً أسباب المعيشة ولا أسباب الدفاع ولا غيره إلا أنهم طلبوا من ربِّهم الكريم أن ينشر لهم من رحمته ويهيِّء لهم من أمرهم مرفقاً فأحياهم - سبحان الله - حياة غريبة في رقودٍ بين الموت والحياة لم يسبق له مثيل ولا نظير حتى انقرض هؤلاء الجبابرة المذكورين واستيقظوا على جيلٍ جديدٍ استنكروهم وأنكرهم وتعجبوا مما معهم من الورق القديم والملامح العجيبة التي قابلوهم بها لأن الله سبحانه قال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف من الآية:18].
ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه كهفاً مظلماً موحشاً فرارا بدينهم من شر مطاردة كفار قريشٍ لينشر الله لهما رحمته وليهيِّء الله لهم من أمرهم مرفقاً فكان الأمر كما يحبُّون لشدَّة وثوقهم بربِّهم وتوكلهم عليه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أتمِّ السَّكينة والهدوء والاطمئنان وإذا رأى صاحبه حزيناً قال له: «لا تحزن إن الله معنا»، حتى قال رضي الله عنه: "كنتُ معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغارِ ، فرأَيتُ آثارَ المُشرِكينَ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أنَّ أحدَهم رفَع قدمَه رآنا، قال: «ما ظنُّك باثنَينِ اللهُ ثالثُهما»". متفق عليه، ورحمة الله على الشيخين.
فنصَر الله عباده وحده وهزم الأحزاب وحده وأعز جنده وحده فنعم المولى ونعم النصير.
وفي ذلك ودروس وعبر للمعتبرين:
أولا: من كان الله معه لا أحد أقوى منه،
ثانيا: كلما كان إيمان المرء وتوحيده أقوى كلما كان نصر الله إليه أقرب،
ثالثا: ببيان الحق وباعتزال أعداء الله تُستدر رحمات الله وبركاته،
رابعاً: لا تُقاس الأمور بمجرد المقاييس الدنيوية المادية البحتة، بل لابد من الالتفات إلى قوة الله القاهرة وكفايته وفرجه لعباده الموحدين بما شاء وكيف شاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.