يا باغي الخير أقبل
ليأتي شهر القرآن شهر رمضان ليتوّج شهور السنة، ويكون بمثابة موسم يحرص المسلم فيه على استقباله واغتنامه
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
يمر البشر في مسيرة حياتهم بمواسم على اختلاف الفصول، ينتظرونها بشوق انتظار الأرض وشوقها للمطر، فيها زرعهم وحصادهم، يحتفون بها وغالباً يدخرون بعضاً من آمالهم وطموحاتهم لعل الله يطرح البركة لهم في مواسمهم هذه فيحققون بعضا من هذه الآمال والطموحات.
وهذه الدنيا والتي لا تعادل عند الله جناح بعوضة إذ لولا ذلك لما أذن الله لكافر فيها بشربة ماء، ولا تطاول بها حقير ولا عربد فيها ظالم، ولأنها حياة مجبولة على كدر يعيش فيها المؤمن بإيمانه غربة ويشعر باستقامته بوحشة، فكان من لطف الله بعباده أن جعل لهم في حياتهم واحات يلوذون بها وينيخون بها رواحلهم فيتحللون من أعباء وأحمال أرهقت كواهلهم ويجددون جذوة العزم في أرواحهم فتشتد إرادتهم عزماً وثباتاً لمواصلة الطريق بقلوب راسخة وأرواح تستمد نورها وقوتها وأنسها رأسا من بارئها، فتجد بعض الأماكن على هذه الأرض اختصها الله بقدسية وزادها فضلا وتشريفاً على سائر الأمكنة، فهذه المساجد الثلاث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى» (رواه البخاري).
فإن كان هذا حال بعض الأمكنة فكذلك اختص الله بعض الأزمنة بما يزيد من فضلها ويرفعها شأنها عن باقي شهور وأيام السنة الأخرى، فتجد في الأسبوع أياماً ترفع فيها الأعمال كالإثنين والخميس، ويوم الجمعة: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة» (رواه مسلم)، وغير ذلك من أيام وشهور ليأتي شهر القرآن شهر رمضان ليتوّج شهور السنة، ويكون بمثابة موسم يحرص المسلم فيه على استقباله واغتنامه، وكأنه الواحة التي يلجأ إليها المسلم من قيظ سنة خلت وبعد سعي مضني يتردد بين الوهن والقوة والفتور والتقصير على مدار العام، يأتي هذا الشهر ليستأنس المسلم فيه بدقائقه وثوانيه وساعاته فيستنشق من أجوائه العطرة ما يخفف به عن نفسه وقد أزكمته روائح طالما اختلطت بأنفاس المثبطين والمرجفين والأفاكين.
رمضان الخير ما كان شهراً عادياً يمر به المسلم مرور الكرام، وما كان ينبغي له أن يكون كذلك في عين المؤمن وفكر المستبصر وقلب المحب المشتاق، بلوغك رمضان واستقبالك له يجعلك تقف متفكرا كم من مشتاق لرمضان وافته المنية وهو يرتقبه ولم يكتب له شهوده، وكم من محروم حضره ولم يتطهر بطهره فطرد ولم يبلغه قلبه ولم تحضره روحه ولو شهده جسمه أو قاسى بجوعه ساعات نهاره، فتقف بين الرجاء والخوف وتتعرض لنفحاته لعل خيراته وبركاته تطال كل ذرات كيانك وروحك.
على أبواب رمضان تقف وقد استحضرت كل صور أولئك الذين شهدوا معك رمضانات سابقة فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من عثرت خطاه وتساقط على الطريق كما أوراق الشجر في الخريف، فاحمد الله من أول ما ترى هلاله أنه ما زال في العمر بقية، ويغمرك شعور بالامتنان والعجز عن شكر مولاك حق الشكر أن عصم قلبك من الهَوْي وثبت قدمك من الزلل فلم تكن من أولئك الذين تساقطوا، وتلتفت حولك فتجد نعم الله تغمرك وتفيض عليك بثلة تشد من عضدك وتوقد جذوة العزم فيك إذا ما أراد أن يتسلل إليك كسل أو وهن فتؤدي عبادتك آمنا في سربك معافى في جسمك، في وقت قد كتب به على البعض أن يصوموا ويقوموا والابتلاءات تحيط بهم كما السوار في معصم اليد، يقاسون سياط الوجع أو الظلم أو القهر.
واستحضر الآن وأنت تقترب من رمضان كل صور الابتلاءات التي بُلي بها غيرك وأنت في بحبوحة من العيش لن تستطيع أن تشكر الله عليها حق الشكر، فترتقي من قلبك دمعتان تفيض بهما عيناك الأولى: شوقا وامتنانا لبلوغ هذا الشهر ورجاء أن تبلغه لا فاقدا ولا مفقودا، ودمعة أخرى تنحدر منك لا اعتراضا وإنما نتيجة فقدٍ فجع به قلبك بمن قضوا ولن يشهدوا معك رمضان هذا.
ولأنّ رمضان ليس عاديا كيف لك أن تستقبله استقبالا يفوق استقبالك لموكب مهيب أو أن تدخل عليه دخولا يليق بقدره، ولو قيل لك بأن ملكاً أو رئيساً أو أياً كان منصبه من أولئك الذين تحيط بهم هالات التعظيم والتبجيل، أيعقل أن تستقبله رث الملبس أشعث الشعر وقد علقت بملابسك وجوارحك بعض من الأتربة والأوساخ؟!
فكيف إذا كان رمضان أعظم من كل أولئك وأن مثولك ببابه يجب أن يكون بداية للكيفية التي ستجاهد نفسك أن تمتثل بها دائماً وأبداً بين يدي سيدك ربك ورب رمضان أيها العبد المسكين؟! لك بعض من النصائح أتناصح بها وإياك يا من فرطنا في جنب الله ومع ذلك أدركتنا العناية الإلهية لشهوده مرة أخرى في هذا العمر القصير:
أولا: اغسل قلبك وفكرك وعقلك من أدران طالما لازمتك طوال العام وذلك قبل أن تغسل جسدك وملابسك وفناء بيتك، وهيء نفسك لشهود الخير واستقبال النور.
ثانيا: تعلق بتلابيب من أسأت إليه وقصرت بحقه من أي دائرة كان من الأهل الجيران الأصحاب الخلان، لا تسمح لنفسك أن تدرك أول دقيقة من رمضان إلا وطلبت العفو ممن أسأت له ولو جثوت تتوسل إليه توسل اليتيم المفجوع وتأمله بعودة أبيه المفقود، فثمة حقوق هنا ممكن أن تستدركها ما دام النفس يتردد في صدرك، وحقوق العباد مقدمة بالأداء على من سواها.
ثالثا: صل من قطعك واعف عمن أساء إليك لعل الله بذلك يغفر لك ويحسن إليك ويعفو عنك مستحضرا بذلك قصص السابقين وقد اهتديت بهداهم واقتديت بآثارهم، فهذا نبي الرحمة مع أهل مكة ويوسف الصّديق مع إخوته وأبو بكر الصديق مع من أساء له بابنته، ألا تحب أن يغفر الله لك؟!
رابعا: تهادوا وتذكر قول النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر» (رواه الترمذي). فإن لم تستطع مادياً إذ ليست الهدية حكرا على هذه الأمور فكل وطاقته وقدرته، فهناك ما هو أسمى وأرق وبعض الهدايا المعنوية قد تلامس شغاف القلب أكثر من سواها فتهادوا ولو أن تبذر الحبّ في دروب السائرين ليورق ويزهر ويجتث أشواك الكراهية والتدابر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (رواه البخاري).
وتذكر أن ثمرة الصيام التقوى والتقوى محلها القلب وكيف للتقوى أن تثمر في قلب طمست معالم حياته الكراهية فلا تجده ينبض إلا كرها وحقدا وسوءا ، فتعهد قلبك من الآن.
خامسا: اعقد النية والعزم على زيارة إحدى البقاع المقدسة، فإن لم تستطع بجسدك فلا تحرم روحك من أن تطوف بالبيت العتيق واجثو بها في الروضة الشريفة متذللاً لعل يفتح لك باب القبول، ولا تنس أن ترابط ولو ساعة من النهار على أعتاب القدس -إن كنت من أهلها- مستقبلاً القبلة وتجعل من ضلوعك لها سياجاً ودرعاً، ورفرف كما النسر فوق قبابها واستحضر بقلبك كل من أحببت وأحالت بينه وبين زيارتها الحدود، وخص كل حبيب وصديق بدعوة فيها ساعة الغروب.
سادسا: عش رمضان هذا بكل كيانك وكأنه آخر رمضان تلتقي به وتشهده ، تدارك ما ضاع من عمرك وكأنه دقيق تناثر في يوم عاصف شديد، اركع واسجد بروحك وقلبك قبل جسدك، و الزم باب ربك لعله يجمع شتات أمرك ويلملم شعث نفسك، ادعوه دعاء المضطر المكروب أن يجمع همك ويجعله في الله ولله وإياك أن تكون رمضانياً وحسب، إياك أن تسمح للملهيات والشواغل أن تصيب قلبك أو أن تمر بمحاذاته إذا فرغت من صيامك وقيامك وتلاوتك، ما يدريك فإن بلغت أوله فقد لا تدرك آخره.
اللهم إليك نشكو ضعفنا وقلة حيلتنا واغفر اللهم لنا ما قدمنا وأخرنا وما أسررنا وأعلنا.
د. سيرين الصعيدي