تعظيم الله في تلك البقاع الطاهرة
نحن بحاجة إلى أن نتعاون في جعل تلك الرحاب الطاهرة طاهرة من الشرك والريب وطاهرة من الفسوق والعصيان ومما يسخط الله عز وجل،
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
شرع الله لنا حج بيته الحرام وعمارة تلك الأماكن المقدسة؛ لإقامة ذكره وتعظيمه كما قال في محكم كتابه: ﴿ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، وقال -تعالى-: { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [إبراهيم: 37]،..فهذا هو المقصود من حج تلك البقاع الطاهرة المقدسة، أن نعظمه - سبحانه وتعالى - وأن نحيي ذكره.
وإنه حري بكل مسلم يفد حاجاً أو معتمراً أن يكون هذا ديدنه في تلك البقاع الطاهرة المقدسة التي اختارها على غيرها من الأرض، أن يعظم الله ويعظم حرماته قال -تعالى-: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30] قال مجاهد في قوله ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ﴾ قال: "الحرمة: مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها"، وقال ابن زيد: "الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، هؤلاء الحرمات". وقال القرطبي - رحمه الله -: "والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج المشار إليها في قوله: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 30]".
وقال ابن زيد في قوله -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] قال: ابن زيد: "الشعائر: الجمار والصفا والمروة من شعائر الله، والمشعر الحرام، والمزدلفة"، قال: "والشعائر تدخل في الحرم، وهي شعائر وهي حرم"، وقال ابن كثير: "أوامره".
وهذا سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- عندما أتى مكة معتمراً عام صلح الحديبية وصد عن البيت أرسل لقريش أنه جاء معظما للبيت ولحرمته، حيث "دعى النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته".
وقد كان سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- القدوة لنا في تعظيم بيت الله الحرام وحرمات الله، فهذا الحسين بن علي - رضي الله عنه -، بلغ من تعظيمه لذلك أنه يتمنى أن يقتل في أي مكان على أن تستحل حرمة هذا البلد الحرام به، عن طاوس عن ابن عباس، قال: " استأذنني حسين في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك لشبكت بيدي في رأسك، قال: فكان الذي رد عليّ أن قال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن يستحل بي حرم الله ورسوله، قال فذلك الذي سلى بنفسي عنه"، قال ثم يقول طاوس: "والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً للمحارم من ابن عباس - رضي الله عنه -، ولو شاء أن أبكي لبكيت".
وهم القدوة لنا أيضا في تعظيم شعائر الله ومناسك الحج واستشعار عظمة المولى - سبحانه - في تلك البقاع، فربما هم أحدهم بالتلبية فلا يستطيع إخراجها، لاستشعاره عظمة ما يقول، كما حصل لعلي بن الحسين زين العابدين - رحمه الله -، فعن سفيان قال: "حج علي بن الحسين، فلما أحرم، اصفر وانتفض ولم يستطع أن يلبي، فقيل: ألا تلبي؟ قال: أخشى أن أقول لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فلما لبى، غشي عليه، وسقط من راحلته فلم يزل بعض ذلك به حتى قضى حجة".
وهذا الإمام الحجة القدوة الرباني عبد الرحمن بن أبي نعم، يقول فيه عبد الملك بن أبي سليمان: "كنا نجمع مع عبد الرحمن بن أبي نعم، وهو يلبي بصوت حزين، ثم يأتي خراسان وأطراف الأرض، ثم يوافي مكة وهو محرم".
وهذا الفقيه شريح القاضي، يقول فيه منصور: "كان شريح إذا أحرم كأنه حية صماء".
لله در تلك النفوس العجيبة التي عرفت ربها في كل وقت، وازدادت به معرفة عندما وفدت عليه.. نعم لقد امتثلوا قوله -تعالى-: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32] قال القرطبي - رحمه الله -: "شعائر الله: أعلام دينه لاسيما ما يتعلق بالمناسك".
وهذا عاصم بن عبد الله بن عمر يرسم لنا درسا: كيف يكون المسلم في المسجد الحرم؟ قال ابن عيينة - رحمه الله -: "دخل هشام الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة، قال: إني أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة، فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا، قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟ ".
انظر لتلك الصورة العجيبة في المسجد الحرام، وفي المقابل انظر إلى أحوال بعض الناس في الأزمنة المتأخرة لتجد العجب العجاب، من مظاهر تنبئ عن عدم استشعار لعظمة الله عند بيته الحرام أو تقدير لتلك الشعائر العظيمة.. تجد البعض - هداه الله - لا يحلو له الكلام في الدنيا إلا في المسجد الحرام.. في رمضان والحج وفي غيرهما.. ومن العجائب أنه حتى في موسم الحج تلمس غربة هذا الدين.. فبعض ضعاف النفوس يقدم للحج وقد اصطحب معه آلات اللهو للتسلية والترويح كما يقول!.. وربما رأيت بعضهم يلعب الورقة أو يشرب الدخان!! فأين ذلك من هدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؟ وكيف كانوا يجتهدون إذا قدموا تلك البقاع؟ يقول عبد العزيز بن أبي حازم: "عادلني صفوان بن سليم إلى مكة، فما وضع جنبه - للنوم - في المحمل حتى رجع" وذلك من اجتهاده - رحمه الله -، وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: "حج مسروق فلم ينم إلا ساجدا على وجهه حتى رجع".
ولا أنكر أنه لا زال في الناس بقية، فقد رأينا من يفد إلى تلك البقاع الطاهرة، قبل الحج بأشهر عديدة حرصا على الطاعة واغتناما للعبادة في حرم الله، ورأينا من يزهد في سكنه الوثير بجوار المسجد الحرم، ويفضل أن يبقى جل وقته في المسجد الحرام طلبا للأجر والثواب، وسمعنا من يجمع كد عمره وعرق جبينه السنين الطويلة، حتى يفد إلى بيت الله الحرام، وربما وافته المنية قبل تحقق مقصده وتلبية رغبته.. وبعضهم في بلدان لا يأتيهم الإذن بالحج إلا بعد سنين طويلة.. ينتظرون الإذن بالحج طوال تلك الفترة.. ولكن هذه الصور تبقى قليلة، والمؤمل أكثر، ومازال في الناس بقية.
كم نحن بحاجة إلى أن نعظم الله في تلك البقاع الطاهرة؟ وأن نجعل من حجنا وعمرتنا مدرسة نتعلم فيه التقوى؟ ونطرح بين يدي الله - عز وجل - في بيته وحرمه خاشعين ذليلين مستكينين؟ مستشعرين أننا أجبنا إبراهيم - عليه السلام - عندما أذن في الناس بالحج ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ﴾ [الحج: 27].
قال ابن باز - رحمه الله -: "يجب على الحجيج من كل جنس، ومن كل مكان طاعة لله - عز وجل -، وتعظيما لبيته العتيق، وإظهارا لحرمة هذا المكان العظيم: مكة المكرمة وتنفيذا لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسيرا على منهج رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومنهج أصحابه رضي الله عنهم".
نحن بحاجة إلى أن نتعاون في جعل تلك الرحاب الطاهرة طاهرة من الشرك والريب وطاهرة من الفسوق والعصيان ومما يسخط الله - عز وجل -، حتى يكون البلد الحرام من أطهر الأماكن على وجه المعمورة، تشعر النفس عندما تفد إليه بالروحانية والراحة والطمأنينة والطهر والصفاء، ونحن أخيرا بحاجة إلى أن نطبق تلك الأحكام العظيمة التي خص الله بها بلده الحرام على أرض الواقع، حتى يعرفها الصغير والكبير والرجل والمرأة والزائر والمقيم، أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا ممن يتمسك بشرعه ويقتفي أثر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم/ عبد العزيز الحويطان.