الاستغفار للآخر
فعل الاستغفار يقوم به المسلم الأوَّاب تجاه نفسه في أغلب الأحيان، وهذا مطلوب من كل إنسان، لكن حديثي ينحصر في علاقة المسلم بأخيه المسلم.
- التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -
قال - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّـهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗوَاللَّـهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
آية من آيات الذكر الحكيم، ترشد المسلم إلى خُلق كريم، بعد العلم بالله والرجوع إليه بالاستغفار للنفس، إلى الاستغفار للآخر من أفراد هذه الأمة من المؤمنين والمؤمنات.
فالإنسان المسلم شاء أم أبى يحيا حياته ساعةً فساعة؛ تارةً في الطاعة وتارةً يقع في العصيان، لذلك شرع - سبحانه - لعباده الاستغفار، كما منح على هذا الفعل مِنَحاً لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ يكفي لبيانها - لمعرفة عظيم نفع الاستغفار وأثره - استحضارُ قوله - تعالى -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12].
وفعل الاستغفار يقوم به المسلم الأوَّاب تجاه نفسه في أغلب الأحيان، وهذا مطلوب من كل إنسان، لكن حديثي ينحصر في علاقة المسلم بأخيه المسلم، ومدى حب الخير له عند حاجته إليه، أوعند تعرُّضه لأفعال تُغْضِب وتكرهها النفس؛ إنه الاستغفار للآخر.
خصلة دعا إليها القرآن وحثَّ عليها سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وتمثَّلها السلف الصالح في سلوكهم ودعوا إليها في كل الأحوال.
الأنبياء والاستغفار للآخر من خلال القرآن:
- حدثنا القرآن الكريم عن أنبياء الرحمن كيف تمثَّلوا الاستغفار للآخر فقال - سبحانه - كما جاء على لسان نبي الله نوح عليه السلام: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
- وجاء على لسان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كما ذكر القرآن الكريم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
- كما جاء على لسان إخوة يوسف مع أبيهم في قوله - تعالى -: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴿٩٧﴾ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:97-98].
الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار للآخر:
ولعل قدوتنا هوخير من تمثَّل هذا الفعل القويم، ودعا إليه وحثَّ عليه، فقال من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: «ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويلٌ لأَقْمَاع القول، ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون» [1].
كما استغفر حبيب الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وكان يستغفر لكل من طلب منه ذلك؛ ليجعله من أخلاق أمته وديدنهم، وكيف لا وهو يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [2].
ومن الأمثلة على ذلك:
- ما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقُتل دريد وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرُمي أبوعامر في ركبته رماه جُشَمِيٌّ بسهم فأَثْبَتَهُ في ركبته فانتهيتُ إليه، فقلت: يا عمِّ! من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدتُ له فلحقته؛ فلما رآني ولَّى فاتَّبعته وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألا تثبُتُ؟ فكفَّ، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فَنَزَا منه الماء، قال: يا ابن أخي! أقرِئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقل له: استغفر لي.
واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مُرْمَلٍ وعليه فراش قد أثَّر رمالُ السرير بظهره وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه، فقال: «اللهم اغفر لعُبَيد أبي عامر»، ورأيت بياضَ إبطيه، ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» . فقلت: ولي فاستغفر، فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبَه وأدخله يوم القيامة مُدْخلاً كريماً»" [3].
- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تبعته وهو يريد يدخل بعض حُجَرِه، فقام وأنا خلفه كأنه يكلم أحداً، قال: ثم قال: «من هذا؟» قلت: حذيفة، قال: «أتدري من كان معي؟» قلت: لا، قال: «فإن جبريل جاء يبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، قال: فقال حذيفة: فاستغفر لي ولأمي قال: «غفر الله لك يا حذيفة! ولأمك»" [4].
طلب الاستغفار من الصالحين:
لم تكتف شريعة الرحمن بطلب الاستغفار من الإنسان للحصول على مغفرة الديّان، بل أعطته إمكانية الحصول على هذه المنحة بطلبها ممن يلتمس فيهم الخير والصلاح، ومن الأمثلة المبينة لذلك ما يلي:
- روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصحابته الكرام: «إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبرَّه وكان به بياض، فمُرُوه فليستغفر لكم» [5].
- كما أخرج الطبراني عن أبي ذر قال: مرَّ فتى على عمر، فقال عمر: نِعْمَ الفتى! فتبعه أبو ذر فقال: يا فتى! استغفر لي.
فقال: أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: استغفر لي، قال: ألا تخبرني؟ قال: إنك مررت على عمر فقال: نعم الفتى! وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» [6].
استغفار العالمين لعباد الله المؤمنين:
- أخبر صلى الله عليه وسلم أن فعل الاستغفار مبثوث في الكون، حيث إن كل خلائق الله تستغفر للمؤمنين، وخص من ذلك صاحب العلم، حيث روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر» [7].
وفي رواية أبي الدرداء قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر» [8].
- وتستغفر ملائكة رب العالمين كذلك للمؤمنين فقد روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة. ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة» [9].
- وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن المُخارق عن أبيه المُخارق بن سليم أن عبد الله كان يقول: "إذا حدثتكم بحديث أتيتكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله؛ قبض عليهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن؛ فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وَجْهَ الرحمن - تعالى -". ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية:10] [10].
أثر استغفار المؤمنين لبعضهم:
- جعل - سبحانه - استغفار المؤمن للمؤمن من الأفعال المحققة للشفاعة، حيث روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي الأمين صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أربعين من مؤمن يستغفرون لمؤمن إلا شفعهم الله فيه» [11].
- وبيَّن أن أثر هذا الفعل كما يناله الأحياء ينتقل أثره إلى الأموات؛ حيث حث صلى الله عليه وسلم على الاستغفار للأموات بعد دفنهم، فقال صلى الله عليه وسلم كما روى عنه عثمان - رضي الله عنه -: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يُسأل» [12].
- وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه؛ فقال: «استغفروا لأخيكم» [13].
السلف الصالح واستغفارهم للمسلمين:
لقد تربَّى السلف الصالح على هذا الخُلق وصار ديدنهم مع بعضهم، يستغفرون للمخطئ كما يستغفرون للمصلح، أو لمن أسدى إليهم معروفاً.
- ومن الأمثلة على استغفارهم لمن أسدى إليهم معروفاً: ما رُوي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنهما - قال: "كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة أسعدَ ابن زرارة ودعا له، فمكثت حيناً أسمع ذلك منه، ثم قلت في نفسي: والله إن ذا لعَجْزٌ إني أسمعه كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه ولا أسأله عن ذلك لِمَ هو؟ فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل، فقلت له: يا أبتاه! أرأيتك صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لِمَ هو؟ قال: أَيْ بُنَيَّ! كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة.. " [14].
- كما يُروى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما حصل لعائشة ما حصل من أهل الإفك وأنزل الله - تعالى - في براءتها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [النور من الآية:11].
قال أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على أحدهم، وهو مِسْطَح بن أثاثة؛ لقرابته منه: "واللهِ! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة".
فأنزل الله - تعالى -: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22].
فقال أبوبكر: "بلى؛ والله! إني لأحب أن يغفر الله لي"، فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه [15].
- وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نال من عمر - رضي الله عنه - شيئاً، ثم قال: "استغفر لي يا أخي!" فغضب عمر، فقال له ذلك مراراً، فغضب عمر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا إليه وجلسوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل؟!»، فقال: "والذي بعثك بالحق نبياً! ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له وما من خلق الله بعدك أحد أحب إليَّ منه"، فقال أبو بكر: "وأنا والذي بعثك بالحق ما من أحد بعدك أحب إليَّ منه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تؤذوني في صاحبي؛ فإن الله - عز وجل - بعثني بالهدى ودين الحق؛ فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقتَ، ولولا أن الله - عز وجل - سمَّاه صاحباً لاتَّخذته خليلاً، ولكن أخوة الله، ألا فسُدُّوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة» [16].
- وأخرج الحاكم في مستدركه عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: "وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً؛ فاختلفنا في عذق [17] نخلة. قال: وجاءت الدنيا، فقال أبوبكر: هذه في حدي، فقلت: لا، بل هي في حدي.
قال: فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم عليها، قال: فقال لي: يا ربيعة! قل لي مثل ما قلت لك حتى تكون قصاصاً، قال: فقلت: لا، والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً، قال: والله لتقولن لي كما قلت لك حتى تكون قصاصاً وإلا استعديت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: لا، والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً، قال: فرفض أبوبكر الأرض، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتلوه، فقال أناس من أسلم: يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال ويستعدي عليك؟!
قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: فرجعوا عني وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقصَّ الذي كان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ربيعة! ما لك والصديق؟» قال: فقلت مثل ما قال كان كذا وكذا، فقال لي: قل: مثل ما قلت لك؛ فأبيت أن أقول له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَجَل! فلا تقل له مثل ما قال، ولكن قل: يغفر الله لك يا أبا بكر!» قال: فولَّى الصديق - رضي الله عنه - وهو يبكي" [18].
وفي نصٍّ جميل من آثار سلفنا الصالح يتبين لنا الخُلق الرفيع، المتمثل في الاستغفار للآخر بعد وقوعهم في أعراض المستغفرين لهم، حيث يروي لنا عصام بن المُصطَلق قال: "دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فأعجبني سَمْتُه وحسن رُوائه، فأثار مني الحسد ما يُجنّه صدري لأبيه من البُغض، فقلت: أنت ابن أبي طالب؟! قال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف،ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فقرأ إلى قوله: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف من الآية:201]، ثم قال لي: خفِّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا أعنَّاك، ولو استَرْفَدْتَنَا أرفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، فتوسّم فيَّ الندم على ما فرط مني؛ فقال: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّـهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم! فقال: شِنْشِنَةٌ أعْرِفُها من أَخْزَم حيَّاك الله وبيَّاك وعافاك وآدَاك، انبسِط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله، قال عصام: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وودِدت أنها ساخت بي، ثم تسلَّلت منه لِوَاذاً وما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ منه ومن أبيه" [19].
أُنَاس لا يُستَغفر لهم:
إن خُلق الاستغفار للآخر لا يصل إليه إلا من رضي عنه ربه، ولكنه مع ذلك محصور بين المسلمين، لا يلج بابه المنافقون والمشركون؛ حيث قال - سبحانه - في بيان منعه على المنافقين: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّـهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:79-80].
قال ابن كثير: "يخبر - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار، وأنه لواستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" [20].
أما منعه على المشركين فقال - سبحانه -: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّـهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113-114].
وأخرج البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: "أنه لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: «يا عمِّ! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله».
فقال أبوجهل وعبد الله بن أمية: "يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبوطالب آخر ما كلمهم: هوعلى ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما واللهِ لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك». فأنزل الله - تعالى - فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ} الآية" [21].
هذا هو الاستغفار للآخر، وهكذا تعامل معه السلف الصالح، وعلى هذا الخُلق الحسن تربَّوْا وربَّوا غيرهم، لكن يا تُرى كيف هي سيرتنا مع بعضنا؟ أنردُّ الحسنة بمثلها أم بضدِّها؟ كيف نتعامل مع من يسيء إلينا؟ أنردُّ السيئة بمثلها، أم بالزيادة عليها، أم بالاستغفار لصاحبها؟ لا بأس على أية حال، لعلنا نسينا أو لم نكن نعرف، وقد حصل لنا التذكُّر فحيَّ على العمل، وعلى تغيير السلوك من فعل قبيح إلى فعل حسن، ولنتخلَّق بأخلاق حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي علّمنا حب الخير لأنفسنا ولغيرنا.
(1) الأدب المفرد، 138، قال الشيخ الألباني: صحيح.
(2) صحيح البخاري: 1/14 رقم (13) وصحيح مسلم، كتاب: الإيمان، رقم (45).
(3) أخرجه البخاري، رقم (4324) ومسلم، رقم (2498).
(4) مسند أحمد بن حنبل: 5/392، رقم (23378) تعليق شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح.
(5) الجامع الصغير وزيادته: 1/383، رقم (3827)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (2064).
(6) مسند الشاميين، للطبراني: 2/382، رقم (1543).
(7) صحيح الجامع، رقم (3753).
(8) سنن ابن ماجه، رقم (235).
(9) سنن أبي داود، رقم (2694).
(10) المعجم الكبير: 9/233، رقم (9144).
(11) الجامع الصغير: 1/ 617، رقم (1021).
(12) الجامع الصغير: 1/95، رقم (947).
(13) صحيح مسلم: 2/656، رقم (63-951).
(14) سنن ابن ماجه: 1/178، رقم (886) سنن أبي داود، رقم (980).
(15) صحيح البخاري: 2/942، رقم (2518).
(16) المعجم الكبير: 12/372، رقم (13383).
(17) العَذْق بالفتح: النخلة، وبالكسر: العرجون بما فيه من الشمايخ، ويُجمع على عذاق.
(18) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، تعليق الذهبي قي التلخيص: لم يحتج مسلم بمبارك، وأخرجه الطبراني في الكبير: 5/58، رقم (4577)، وفي المستدرك: 2/188، رقم (2718) وذكره الألباني مختصراً في الصحيحة: 8/152، رقم (3145)، بلفظ: «يا ربيعة! ما لك وللصديق؟» قلت: يا رسول الله! كان كذا كان كذا قال لي كلمة كرهها فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً ( فأبيت ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل! فلا ترد عليه ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر!».
(19) تفسير القرطبي: 7/306.
(20) تفسير ابن كثير: 2/493.
(21) صحيح البخاري: 1/457، رقم (1294).
الكاتب: أحمد العمراني.