التدبُّر ببعض الآيات في خلال رمضان( المقال الثاني )
عبد الفتاح آدم المقدشي
وكأنها تتفكر وتقول: كيف يكون حال الأمة بعد انقطاع الوحي؟! كيف يكون مصير الأُمَّة وهم غير موجَّهين بالوحي؟! وتقول: كيف إن ضلَّت الأمة في مسألةٍ من المسائل العلميَّة لأن الإجماع لم يكن يومئذٍ معروفاَ ولا معقوداَ؟َ! وتقول: كيف يواجهون المرحلة القادمة الجديدة المقبلة وليس معهم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي ؟! وكيف .....وكيف ...وكيف .....إلخ
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين
أما بعد
فقد جاء جمعٌ من أحبار النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد ليَّن الله قلوبهم للإيمان والحق, فحين سمعوا القرآن يُقرأ خشعوا لكلام الله والحق الذي أُنزل حتى بكوا وسالت دموعهم على خدودهم, قال الله حكاية عنهم { {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } } [ المائدة: 83 - 85 ] )
إذاً هكذا لابد أن تكون حال عباد الله الصالحين كما لابد أن تكون قلوبهم ممتلئة بخشية الله سبحانه والخضوع له والاخبات له ليُذعنوا للحق وللإيمان وللعلم كما قال تعالى { {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} } [هود: 23 ] ]
وقال تعالى { { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} } [ الحديد : 16] ]
وقد كان بين أن ينزل الله هذا العتاب على الصحابة وبين بداية الإسلام أربع سنوات فقط ,.ثم جاء عقب ذلك آية تُحذِّر المؤمنين أن يكونوا ككثيرٍ من أهل الكتاب الفاسقين الذين قست قلوبهم بعدما طال عليهم الأمد.
فهنا في الآية خشوع لأمرين كما ترى وهما كالتالي:-
أولا: الخشوع لذكر الله وآيات الله التي تتنزَّل غضاً ضرياً من عند الرحمن وهو ما يستحق التأثُّر بها والخشوع له كما سأبيِّنه في الكلمات الآتية.
تصوَّر – أيها العبد المؤمن - أن الوحي لم ينزل وهذه النعمة مفقودة بين الناس فكيف يكون حال الناس إذاَ , وقد بكت أم أيمن لما انقطع الوحي من السماء بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرحتُ قصتها في كتابي : " إمرءة بكاءة في مواقف مدهشة " وهي قصة واقعية جديدة وقلت: وخذ مثالاً على ذلك قصة زيارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لأم أيمن ففي صحيح مسلم- رحمه الله - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ ، فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا "
فسبحان الله, أرأيت كيف تفكير أم أيمن العظيم – رضي الله عنها - يحُلِّق في سماء العظمة والرفعة في أمور الوحي وانقطاعه
وكأنها تتفكر وتقول: كيف يكون حال الأمة بعد انقطاع الوحي؟! كيف يكون مصير الأُمَّة وهم غير موجَّهين بالوحي؟! وتقول: كيف إن ضلَّت الأمة في مسألةٍ من المسائل العلميَّة لأن الإجماع لم يكن يومئذٍ معروفاَ ولا معقوداَ؟َ! وتقول: كيف يواجهون المرحلة القادمة الجديدة المقبلة وليس معهم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي ؟! وكيف .....وكيف ...وكيف .....إلخ
.فهذه أسئلةٌ مهمة جداً وجديرة جداً بالتفكر ومحيِّرة في نفس الوقت والتأمل خصوصاً في مثل هذه المرحلة العصيبة التي كان يمر بها المسلمون , ولكن مفكر الأمَّة في هذه المرحلة هو من؟ في الحقيقية إنما هي أم أيمن وليس أي رجل من الرجالات!! وذلك إنما كان لشدة تأثرها بهذا الدين العظيم والحدث الجلل لذي طرأ ألا وهو انقطاع الوحي. .
وقد أبكت أفضل خلق الله بعد الأنبياء وهما أبو بكر وعمر وهيَّجتهما في البكاء وبالتأثر, ولم لا يبكيان وقد نبَّهتهما على أمرٍ عظيمٍ وهو البكاء لانقطاع الوحي , وهو حدث عظيم في الدين بل هو أعظم حدث ,وهكذا إذا يجب أن يكون العظماء يبكون ويتأثرون في الأحداث لا أن يكونوا قساة جامدين والله أعلم.
وثانياً: التأثُّر والخشوع بالحق الذي نُزِل , وهذا الحق هو الفرقان الذي فرَّق الله به بين الظلمات والمظالم العظيمة التي كانت سائدة في عصر الجاهلية والنور والعدالة الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذاً أفلا يستحق الخشوع له والبكاء له وتعظيمه وتبجيله حق التبجيل؟
هذا, والله سبحانه قد حذَّرنا من قسوة قلوبنا في ديننا كأهل الكتاب ولكن قصَّ الله لنا في كتابه أن بعضاً منهم كانوا أهل الخشوع والاخبات لله والعبادة كما قال تعالى { { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} } [ آل عمران: 199]
وهم ممدوحون أيضا بخشوعهم هذا وتأثرهم بالحق الذي أنزله الله كما في الآيات التي ابتدأنا بها في مطلع المقال في سورة المائدة.
إذن أهل الحق دائما هم المتأثًّرون بالحق الخاشعون له الثابتون عليه كما هم كذلك أهل الخشية لله حق الخشية والخشوع لله حق الخضوع.
وقد نتج من تأثرهم في آيات الله ومعرفتهم للحق أن فاضت أعينهم لله, وأن يدعوا الله بهذه الأدعية العظيمة, وأن يؤمنوا بربِّهم إيماناً قوياً فأثابهم بسبب قولهم هذا جنات تجري من تحتها الأنهار.
ولذلك دائماً أتباع الحق هم المعظِّمون له كما أن أهمَّ العجلات التي كانت تُحرِّكهم لاتَّباع الحق – والحق أحق أن يتبع- - هي هذا التأثر والخشوع والاخبات والإنابة إلى الله.
فعلى العموم ما دام أهل الخشوع هم المخبتون لله وهم أهل الوجل في قلوبهم فإنهم أيضا كذلك هم أهل الإنابة وخشية الله بالغيب والحفاظ لحدود الله كما هم أحق من غيرهم أن يدخلهم جنة الخلود كما قال تعالى { {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}
فأهل الخشوع والإنابة هؤلاء هم الذين أقاموا وجوههم للدين الحق, وهم الحنفاء الذين كَمُل عندهم الدين القيِّم المتيَّقنين في دينهم الحق المتَّقين تمام التقوى المخبتين المتبرئين من الشرك وأهله كما هم ليسوا من أهل الأهواء والتفرق والاختلاف والبغي والظلم المتناحرين في سبيل الباطل والفجور الخائضين في الشهوات والشبهات.
فإن أحببت الدليل على أوصافهم هذه فاقرأ إن شئت قوله تعالى { {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} } [ الروم:(32)]
واعلم أن من أحسن طُرق الاستقامة حفظ الله في أوامره ونواهيه؛ ولذلك قال - تعالى -: ﴿ {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } ﴾ [ق: 32 - 33].
ولذلك أقول: لن يكون المؤمن ذا قلبٍ منيبٍ حتى يخشى الرحمن بالغيب، ولن يخشى الرحمن بالغيب إلا وصار حفيظًا، ولن يكون حفيظًا حتى يكون أوَّابًا، ولذلك أثنى الله على عبده خليل الرحمن بهذه الصفة، وقال: ﴿ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} ﴾ [هود: 75]،
وقد أثنى الله على عباده المؤمنين العاقلين بأمرِ ربِّهم بِوَجَل القلوب؛ كما قال - تعالى-: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ﴾ [الأنفال: 2]، وقال - تعالى - في سورة الحج: ﴿ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } ﴾ [الحج: 34]، وقال - تعالى - في سورة هود: ﴿ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ﴾ [هود: 23]
أما الحمقى والمُغفَّلون من الكفار ومن على شاكلتهم فسيقولون يوم القيامة: ﴿ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ﴾ [الملك: 10].
إذًا؛ تعلم من خلال دراستك لهذه الآيات أن أساس كلِّ الأعمال التعبُّدية الخضوع والخشوع لله - جل جلاله - ولذلك لما عدَّد الله صفات المؤمنين الذين يرثون الجنة - الفردوس الأعلى - بدأ بصفة خشوعهم في الصلاة؛ وذلك لأن هذا الخشوع لبُّ العبادة وثمرتها الحقيقية، فمن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ومن حفظها فهو لما سواها أحفظ، والله يحفظ عباده المتقين ويرعاهم، والجزاء من جنس العمل[1.
وقد ختم الله بهذه الصفات في سورة "المؤمنون": ﴿ { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ﴾ [المؤمنون: 9]،
فكما بدأ الله - سبحانه - في أول السورة بالخشوع فيها ختمها بالمحافظة عليها، ولذلك فهم يستحقون بهذه الصفة العظيمة في قوله تعالى: ﴿ {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} ﴾ [ق: 32]، والقرآن يؤيِّد بعضه بعضًا
.والله سبحانه وتعالى أعلم
أبو عبد الله
عبد الفتاح آدم المقدشي