الحرب الأهلية في اليمن... المتوقع والمأمول
ملفات متنوعة
تشير بعض التوقعات المحلية والأجنبية بشأن مستقبل الأزمة الراهنة في
اليمن إلى إمكانية دخول البلاد في أتون (حرب أهلية)؛ نظراً لانسداد
أفق الحل المقبول من أطراف المعادلة حتى اللحظة على أقل تقدير...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
تشير بعض التوقعات المحلية والأجنبية بشأن مستقبل الأزمة الراهنة في اليمن إلى إمكانية دخول البلاد في أتون (حرب أهلية)؛ نظراً لانسداد أفق الحل المقبول من أطراف المعادلة حتى اللحظة على أقل تقدير، ولأنها مجتمعاً وبيئة وثقافة وتقاليداً تتوفر فيها عوامل متعددة تشكل بمجموعها مخاطر تهدد بحرب أهلية، ومنها:
وجود تعبئة طائفية متشددة وحادة: كما هو الحال لدى حركة الحوثي، التي باتت قوة طائفية مسلحة تهيمن على موقع جغرافي وسند قبلي اجتماعي، وهو ما يؤهلها لخوض حرب مسلحة في سبيل فرض هيمنتها كقوة عسكرية وسياسية في بعض محافظات شمال الشمال، في صعدة والجوف مثلاً. وهذا قد يدفع بعودة المواجهات مع القوى القبلية والمذهبية التي تختلف مع أجندة الحركة ومطامعها. وسبق للكاتب أن حذر من لغة الاستقطاب المذهبي الحاد الذي تنتهجه الحركة في أدبياتها تجاه القوى السُّنية في اليمن بكافة أطايفها[1].
وهذه الحرب تلبِّي - بدون شك - رغبة أطراف إقليمية كإيران، كما أنها تحقق تحت عباءة الغطاء الطائفي مصالح قبائل وعوائل أُقصيَت عن التأثير والنفوذ والثروة. وخاصة أن الاستقطاب الطائفي بدأ يأخذ منحى تصاعدياً في ظل أحداث البحرين وما لحقها من تداعيات إقليمية.
وفي حال وقوع حرب من هذا النوع فلن يتوقف لهيب نارها في مناطق محدودة، بل ربما استدعت البعد الإقليمي إليها؛ لذلك فإن الواجب على اليمنيين وأدُ مثل هذه المشاريع من خلال التأكيد على المصالح العامة والتعايش السلمي في ظل القيم والمبادئ المشتركة، مع بقاء الخلاف المذهبي والفكري في دائرة الجدل والحوار والنقاش العلمي الموضوعي. وإذا خرجت الأمور عن السيطرة ودخل المجتمع في حرب أهلية فإنها ستسدعي البعد الإقليمي وتعيد إلى الذهن الصراع المذهبي في العراق عقب سقوط بغداد عام 2003م.
ومنها الفرقة الاجتماعية والسياسية بين مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي: فمما بات ملموساً غيابُ رؤية توافقية لحل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حتى بين الأطراف التي اجتمعت اليوم على مطلب واحد بسقوط النظام. فلا تزال توجد في الجنوب أصوات منادية بالانفصال وإن كانت ترى أنه من المناسب تكتيكياً عدم رفع شعارات الانفصال حتى سقوط النظام. وهناك سعي للحوثيين - كما أسلفنا - لفرض وجودهم أمراً واقعاً في صعدة والجوف وبعض المناطق وهم الذين ينظرون إلى التجمع اليمني للإصلاح وعلي محسن الأحمر والشيخ حميد الأحمر وإخوانه بعين الريبة والشك. يضاف إلى ذلك محاولة القاعدة لاحتلال موقع قدم لها في أبيَن وشبوة في ظل الفوضى التي يمكن أن تنتج عن سقوط النظام. وهناك انقسامات أخرى سوف تكشف عنها الفترة القادمة، رغم محاولات التبسيط والقفز التي يحاول بعضهم ممارستها في زخم الثورة الشعبية والتغطية على بعض معطياتها في ساحات التغيير ذاتها.
ضعف الحكومة المركزية وبدء انهيار النظام: فهناك عدة محافظات خرجت عن سيطرة الدولة قصداً أو كرهاً، فمحافظة حضرموت والمهرة أصبحت مستقلة بانضمام اللواء محمد علي محسن قائد المحور الشرقي إلى الثورة، وشبوة وأبين تُركَت عمداً من النظام لتشغلها القاعدة، ومأرب والجوف - اللتان لم تكونا تحت سيطرة الدولة أساساً - بات الحضور الحكومي فيها ضعيف جداً، وصعدة سقطت بقرار النظام تسليمها إلى الحوثيين، بالإضافة إلى محافظات أخرى بدت تشهد عصياناً مدنياً ومقاومة شعبية بشكل يشلُّ أداء المؤسسات الحكومية.
توفر السلاح وطرق الإمداد للتسلح، وتوفر دعم مادي ومالي للأطراف المختلفة: وهذا يهيئ مناخاً ملائماً لاشتعال شرارة الحرب الأهلية في حال باتت المشاريع الخاصة هي المنطق الغالب في تعامل الأطراف السياسية والاجتماعية في ما بينها. فالمجتمع اليمني تطغى عليه العصبية القبلية والحمية، وبرغم الصورة السلمية التي تطغى على المشهد العام اليوم فإن التخطيط للمشاريع المستقبلية الخاصة حاضر بقوة وترافقه عمليات تسلح واستعداد لأي تحوُّل في طبيعة الأزمة. فإذا ما اعتبرنا اليمن منطقة عبور لتجارة الأسلحة وسوقاً للبيع والشراء ومخرناً ضخماً له فهي بهذه المعطيات تمثل (قنبلة موقوتة)؛ لا باعتبار التهديد الذي ينادي به الرئيس علي صالح لغاية في نفسه، ولكن باعتبار حقائق الواقع الملموسة التي تغض قوى الثورة الطرف عنها لغاية في نفسها هي أيضاً.
وهكذا نجد أن الحرب الأهلية في اليمن يمكن أن تأخذ صوراً عدة منها:
النزاعات القبلية: التي ظلت مشتعلة خلال فترات سابقة نظراً لوجود نزاعات ثأر أو مصالح. كما هي الحال في محافظات الجوف ومأرب وذمار ومحافظة صنعاء وغيرها.
الانقسام المناطقي: حيث يجري الحديث عن شعبين شمالي وجنوبي، والمناداة بالانفصال ولو اعتماداً على الاستعانة بالبعد الدولي، كما هو خطاب نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض ورموزاً معارضة في الخارج.
المشاريع الضيقة: من قَبِيل مشروع القاعدة في فرض هيمنتها على رقعة من الأرض واتخاذها منطلقاً للقتال وضم بقية المناطق لما قد يطلق عليه بالإمارة الإسلامية. وقد تشهد اليمن مشاريع أخرى ضيقة كالسلطانات الجنوبية مثلاً.
التمييز الطبقي: حيث توجد شريحة اجتماعية كبيرة مهمشة تعيش على خارج حدود الحياة الإنسانية، في ظل تمييز اجتماعي، كما هي الحال مع طبقة الأخدام الذين يمكن إدخالهم في الصراع لحساب طرف على آخر.
الحرب الأهلية والفتنة المبيتة:
تعرَّف الحرب الأهلية بأنها الصراع المسلح الذي يقع داخل مجتمع ما، أو دولة ما، أو إقليم ما، على أسس عرقية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية أو مشاريع خاصة، سواء كانت الدولة جزء من هذا الصراع أو لا. ويطلق هذا المصطلح في القانون الدولي على هذه الصورة، وعلى أي نزاع مسلح بين الدولة وبعض قوى المجتمع أو تجاه العصيان المدني أو التمرد المسلح الموجَّه ضدها. أما التعريف الأكاديمي السائد فيقوم على معيارين:
أولهما: أن تكون المجموعات المتناحرة من البلد نفسه، وأن تتقاتل من أجل السيطرة على السلطة، أو من أجل فرض تغيير عليها، أو في سبيل الانفصال.
وفي العموم فإن المصطلح فضفاض ويضم أشكالاً عديدة من النزاعات. والرأي السائد في القانون الدولي في الوقت الحاضر يقوم على أساس أن تحديد الحرب الأهلية يعتمد على أن يكون القتال بين مدنيين مسلحين، وليس بين دول أو قوات مسلحة نظامية.
وقد تقوم الحرب الأهلية في ظل حكومة قائمة أو في ظل سقوط النظام الحاكم في الرقعة الجغرافية أو غياب سيطرته على أجزاء من أراضيه. وتكمن خطورتها في كونها لا تخضع لقواعد الاشتباك المتعارَف عليها عسكرياً (نظامياً)؛ بل هي حرب تستند إلى مشاريع خاصة وشرعية ذاتية، يغيب عنها القانون وتخرج عن السيطرة غالباً، وجزء من أهدافها يتمثل في استهداف المدنيين من الطرف الآخر لغرض الإبادة الجماعية، أو ترهيبهم بغرض إخراجهم من مناطق النزاع، وفي كل الأحوال يجري تغيير التركيبة السكانية والتوازن الديموغرافي. وهي في سبيل ذلك تتخذ صور قتال العصابات (الميليشيات)، وقتال الشوارع، والاغتيالات، والكمائن، وصور التعذيب الوحشي والاختطافات.
ومن نتائج الحرب الأهلية: غياب الدولة أو ضعفها، وانعدام الأمن والسكينة العامة، وتقطُّع الطرق، وتعطُّل مناشط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتوقف مسيرة البناء والتنمية، وهذا ينعكس بدوره على البنى التحتية ومستوى الخدمات التعليمية والصحية وغيرها، وهو ما يضع المجتمع رهينة للقوى المتربصة: من هيئات ومنظمات تبشيرية وتغريبية واستخبارية.
كما يتولد عنها ظاهرة النزوح أو اللجوء الجماعي،وسقوط ضحايا مدنيين من كافة الأعمار، ومن الجنسين، وانتشار العنف والفساد وتجارة التهريب، وانتهاك الأعراض ونهب الثروات والأموال الخاصة والعامة، وانتشار الأمراض والأوبئة؛ وظهور المجاعة ونقص الغذاء، وتصبح المناطق الآمنة هي مناطق العمق، في حين تصبح مناطق التماس هي مناطق الاشتعال المستمر.
وهكذا نجد أن للحرب الأهلية نتائج فادحة على مستوى القوى المتصارعة والمجتمع والدولة؛ وفي حالة كاليمن قد تخضع البلاد تحت ذريعة الأمن الإقليمي والدولي للوصاية الدولية والتدخل الأجنبي بموجب قرارات دولية.
وهذا الحديث عن نتائج الحرب الأهلية غير خافٍ على مجتمعات عربية وإسلامية شهدت مثل هذا الصراع؛ فقد عاشت المنطقة العربية خلال عقود سابقة عدة حروب أهلية مثلت أشكالاً مختلفة لطبيعة النزاع وأطرافه ومداه. وفي جميع الأمثلة كان لهذه الحروب أثرها السلبي دون أن يكون هناك غالب أو مغلوب. ومن أمثلة ذلك: الحرب الأهلية في لبنان، والحرب الأهلية في الجمهورية العربية اليمنية سابقاً (حرب المناطق الوسطى)، كلاهما في ثمانينيات القرن المنصرم؛ والحرب الأهلية الجزائرية (عقب عام 1990م)، والحرب الأهلية الأفغانية (بعد فتح كابول)، والحرب الأهلية الصومالية في التسعينيات من القرن الماضي؛ والحرب الأهلية في العراق عقب سقوط بغداد عام 2003م.
واجب العلماء والحكماء:
إن الحديث عن احتمال حرب أهلية في اليمن ليس أمنية، أو ترفاً فكرياً، أو من قبيل المؤامرة وتثبيط العزائم، لكنه من قبيل الواقعية التي يجب عدم إغفالها أو القفز عليها لصالح أهواء وأماني سرعان ما تتبخر تحت لهيب وضع المجتمع وطبيعة العادات والتقاليد والثقافة السائدة والمصالح الخاصة الضيقة والمتضاربة.
فعلى الرغم من تقاطع مطالب الجميع في الثورة اليمنية على ضرورة إسقاط النظام كونه كان السبب في توظيف الخلافات والطوائف واللعب بها؛ إلا أنَّ خفوت المطالب والمشاريع التالية لإسقاط النظام يعكس حقيقة عدم التوافق (فضلاً عن التطابق) بين قوى التغيير، خاصة مع تردد الحديث من كل طرف عن (سرقة الثورة) من أطراف مغايرة.
والسياسة لمن يعرفها لا تقوم على الأماني والتطلعات ولكن على الحقائق والمعطيات الواقعية، وإذا كنا نُقرُّ بوجود حركة الحوثي والقاعدة ودعوات معززة بالحَراك من أجل الانفصال وبقايا قوى النظام الحالي الراغبة في الانتقام لو وقع التغيير، فإننا نتحدث عن بوادر أزمة قادمة يمكن لها أن تتطور لو أغفل العلماء والحكماء والخيِّرون من أبناء اليمن معالجة أبعادها وتدارك مسبباتها.
وهنا جملة من التدابير المقترحَة يمكن أن يقوم بها عقلاء اليمن للحفاظ على اللحمة الاجتماعية والوحدة السياسية والهوية الثقافية، منها:
أولاً: صياغة الدستور القادم صياغة جيدة تراعي هذا التباين من خلال التأكيد على القيم والمبادئ المشتركة؛ مع ضمان حقوق الناس الشرعية ومطالبهم العادلة بتوازن وبصفة دائمة وعبارات واضحة.
ثانياً: جلوس كافة الأطراف الممثلة في الساحة اليمنية (الفكرية، والسياسية، والمذهبية) على طاولة الحوار، وتقريب وجهات النظر، وصياغة رؤية متفق عليها بين الأطراف للصدور عنها والاحتكام إليها.
ثالثاً: التخلي عن المشاريع الضيقة والمصالح الخاصة في سبيل التوحد والاجتماع واستقرار السكينة العامة، مع التنافس ميدانياً عبر الكلمة والخطاب وتقديم البرامج وطرح المشاريع للجمهور، مع ترك الحرية للناس للتقييم والاختيار دون إكراه أو شراء للذمم أو إرهاب فكري أو اجتماعي أو سياسي.
رابعاً: نزع السلاح عن كافة القوى القبلية والسياسية والمذهبية، وتشكيل جيش وطني يقوم على أساس التمثيل النسبي لكافة المناطق اليمنية دون تمييز، وتحديد مهامه بحماية البلد من أي قوى أجنبية محتلة، مع النص على عدم تدخُّله في صراع سياسي أو فكري أو مذهبي باعتباره مؤسسة شعبية محايدة.
خامساً: إعادة صياغة هيكل الدولة وَفْقَ نظام فيدرالي أو حكم محلي واسع الصلاحيات، يتيح لكل مجتمع محلي إدارة شؤونه وُفْق رؤيته وطبيعته الاجتماعية دون المساس بحقوق الأقلية أياً كانت، ودون الخروج عن الهوية الثقافية والسياج الاجتماعي الجامعَين للشعب اليمني. فالإصرار على صيغة وحدة مركزية تتصارع عليها القوى بين أقلية وأكثرية، وشمالية وجنوبية، وإسلامية وغير إسلامية، قد يُدخِل البلاد في فوضى عارمة وحرب أهلية كما سبق أن أشرنا.
هذه الحلول لعلها تكون محل نظر لدى عقلاء اليمن لتكون مخرجاً لمستقبل اليمن قبل أن تختطفه قوى التآمر والتربص وتسرق الثورة الشعبية قبل أن ترى النور، كما حدث في ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر، والمؤمن لا يُلدَغ من جحر مرتين.
المصدر: أنور قاسم الخضري