وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم

أبو الهيثم محمد درويش

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) } [غافر]

  • التصنيفات: التفسير -

{وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} :
حوار عقلي دار ولازال يدور بين معاند مستكبر عن أمر الله غره شيطانه و غرته دنياه واغتر بملكه و بين مؤمن سلاحه الإيمان و الفطرة السليمة و العقل الصريح.
فكان أول اعتراض عقلي لمؤمن آل فرعون : أتقررون القتل لموسى و من معه لأنهم فقط قالوا ربنا الله , وقد أتاكم بأدلة دامغة ظاهرة على صدق دعواه وصدق إيمانه؟؟!!! فهل يصح أو يعقل أن يكون إيمانه سبباً في حكم الإعدام, خاصة بعدما جاءكم به من معجزات وآيات تدل على صدقه؟
الاعتراض الثاني : إن كان موسى كاذباً في دعوا ه بأنكم ستدخلون النار و أنكم أعداء لله , فكذبه على نفسه ولن يضركم إن كان كاذباً , لأنه في هذه الحالة لن يكون عذاب ولا حساب عليكم .
أما إن كان صادقاً فانتظروا ما توعدكم به من عذاب الدنيا و عذاب الآخرة.
واعلموا أن الله سيظهر كذب الكاذبين سواء كان الكاذب هو أم أنتم . 
يا قوم اليوم أنتم ملوك الأرض و نعم الله عليكم متوالية متتابعة , فإن حل عليكم غضب الله و عقابه سيزول ملككم ولن ينجدكم من عقاب الله ملك ولا جند.
فكان رد فرعون المعاند المستكبر : لا أرى لكم أصلح من رأيي و رأيي هو الرشاد و طريقي هو طريق الإصلاح الوحيد.
قال تعالى:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا ۚ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) } [غافر]
قال السعدي في تفسيره:
ومن جملة الأسباب، هذا الرجل المؤمن، الذي من آل فرعون، من بيت المملكة، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة، وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر، كما منع الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب من قريش، حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم، موافقًا لهم على دينهم، ولو كان مسلمًا لم يحصل منه ذلك المنع.
فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم، مقبحًا فعل قومه، وشناعة ما عزموا عليه: { {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} } أي: كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أنه يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولاً مجردًا عن البينات، ولهذا قال: { {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } } لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير، أي: فهذا لا يوجب قتله.
فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق، وقابلتم البرهان ببرهان يرده، ثم بعد ذلك نظرتم: هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا؟ فأما وقد ظهرت حجته، واستعلى برهانه، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي.
ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل، بأي حالة قدرت، فقال: { {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } } 
أي: موسى بين أمرين، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه، وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه، وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو عذاب الدنيا.
وهذا من حسن عقله، ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائرًا بين تينك الحالتين، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.
ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك، وبيان قرب موسى من الحق فقال: { {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } } أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل. { {كَذَّابٌ } } بنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله ولا في دليله، ولا يوفق للصراط المستقيم، أي: وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه.
ثم حذر قومه ونصحهم، وخوفهم عذاب الآخرة، ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر، فقال: { {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } } أي: في الدنيا { {ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} } على رعيتكم، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير، فهبكم حصل لكم ذلك وتم، ولن يتم، { {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } } أي: عذابه { {إِنْ جَاءَنَا} } ؟ وهذا من حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركًا بينه وبينهم بقوله: { {فَمَنْ يَنْصُرُنَا } } وقوله: { {إِنْ جَاءَنَا } } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه.
فـ { {قَالَ فِرْعَوْنُ} } معارضًا له في ذلك، ومغررًا لقومه أن يتبعوا موسى: { {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} } وصدق في قوله: { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } ولكن ما الذي رأى؟
رأى أن يستخف قومه فيتابعوه، ليقيم بهم رياسته، ولم ير الحق معه، بل رأى الحق مع موسى، وجحد به مستيقنًا له.
وكذب في قوله: { { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} } فإن هذا قلب للحق، فلو أمرهم باتباعه اتباعًا مجردًا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق، اتباع الضلال.
#أيو_الهيثم
#مع_القرآن