العبوس المتغطرسة!!
محمد جلال القصاص
وما حول القرآن الكريم (الأدب والشعر) في لغتنا الجميلة، يفهمه الجميع ويستحضره الجميع، والشاعر قديمًا-على عظم مكانته- كان يخاطب الجميع بلغةٍ سهلة؛ وإلى اليوم الخطاب العربي يصل الجميع اللهم إلا أن يتعاطى المتحدث شيئًا من عند هذه العبوس المتغطرسة!!
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
وقفت مرة على ورقة معلقة على جدارٍ في أكاديمية، فيها عدد من النصائح إن اتبعتها تصبح كاتبًا ماهرًا!!، ولأني أكتب وقفت أقرأ بعناية، فإذا كلها مما أنكر. كلها مما تدعيه الأكاديمية الحديثة!!
الأكاديمية تلزمك بوحدة الموضوع، وصلابة العبارة، فلابد حين تكتب بطريقة أكاديمية أن تتصلب وتقفهر وتتقمص دور الصلب الحاد ثم تكتب. ويغلي الدم في عروق أستاذ أكاديمي إن استرسلت ولو بعبارةٍ واحدة، ويمسك قلمه الأحمر ويثور على الكلمات بدوائرٍ وشخبطات وتعليقات نارية. وربما يصيح: ما شأن هذه الجملة هنا؟؟، وقد ينقصك بعض الدرجات، أو يخرج عن حسن خلقه ببعض العبارات!!
على النقيض من ذلك تمامًا أعظم الكتب، كتاب الله القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. في صفحة واحدةٍ أو أقل يتطرق لعددٍ من المواضيع: يخاطب من يقرأ ويتتبع شطحات عقله، ويجيب على الأسئلة التي تتولد بداخله، ويطرح عليه أسئلة أخرى في الدروب التي يتيه فيها بعقله حين يقرأ؛ وكثيرًا ما يستحث التفكير بطرح أسئلةٍ حول الموضوع، كأنك في حوارٍ مع الله الكبير المتعال: يخبرك، ويذكرك، ويسألك لتفكر، ويعرض عليك ويطلب منك؛ ويسمي السورة بجزءٍ من أحداثها لا بتسميةٍ عامةٍ شاملةٍ تغطي جميع التفاصيل.. يسمي بجزء يمثل التفاصيل أو اختزلت فيه التفاصيل؛ فحين تقرأ القرآن الكريم كأنك في تريض ذهني.. متعة فكرية وحسية فضلًا عن الثواب الذي تُحصله.
وحدة الموضوع و(الصلابة) في الطرح جاءت مع الغرب.. مع الأدب بداية. فكانت هذه الخشنة الصلبة ذات الوجه العابس هي كل ما في يد الثائرين في المجال الأدبي في مطلع القرن العشرين. يقولون: وحدة الموضوع، ويقولون: التعبير عن الذات. ولم يأتوا بجديد وإنما انبهروا بما في يد الغرب فقلدوه. كانوا صبية في مقتبل العمر وكان حراس القديم كالجبال الشم الرواسي فبَدَلَ أن يتعلموا منهم ويبحثوا عن ذاتهم في إحياء تراثنا وخاصة أن اللغة تحمل الدين وتحميه، بَدَلَ أن يتفحصوا الوافد وينقدوه، أعجبوا به وحملوه على أكتافهم وثاروا على المجددين في الأدب؛ وانتهى أمرهم إلى نقل بضاعة الغرب وتوطينها في بيئتنا على أنقاض لغتنا الجميلة، فكان تجديدهم المزعوم تبعية للعدو!!
النموذج القرآني يراعي حال من يتلقى.. يمارس خطابًا متشعبًا.. متطورًا.. مقارنًا، يجلس مع من يقرأ يجيب له عن أسئلة تدور في صدره هو، ربما لا يستطيع أن يتحدث بها لغيره، أو يحس بها ولا يستطيع التعبير عنها؛ ويخبره بما يشتاق لمعرفته، ويحرك التفكير والوجدان، بلغة البشير النذير؛ بمعنى أن النموذج الإسلامي يراعي طبيعة العقل الإنساني وأنه توليدي-كما يصفه الدكتور المسيري نقلًا عن أساتذته-، فحين تصب عليه المعرفة يتفاعل معها ويتحرك يمينًا وشمالًا خلف المعاني، أو تأخذه المعاني يمينًا وشمالًا فيتتبعه النص كأنما يروضه أو يريضه.
والنموذج العلماني ينطلق من الذاتية.. ذاتية المتحدث.. الكاتب، الذي ينتفخ سحره ويقفهر وجهه ثم يتحدث!!، ففي النموذج العلماني للمتحدث(أو الكاتب) هدف واحد هو: إرسال رسالة تهمه هو. بمعنى أن المتحدث (أو الكاتب) ينطلق من معنى داخلي.. من الذاتية، ولذا يتحدث بحديث واحدٍ فقط، ما يسمونه وحدة الموضوع.. يتحدث بما امتلأت به ذاته.
وإذا أخذنا ما نسب للمسيح مؤشرًا (من ثمارهم تعرفونهم) في الحكم على الأشياء فماذا فعلت الأكاديمية ومدارس الشعر والأدب الحديث؟!
هل استطاعت التعبير عن الذات حقًا؟!
هل أطربت الجماهير؟
الطرب جاء بالموسيقى والرقص ولم يستطيعوا الاكتفاء بالكلمات، ولذا فإن المنظومة العلمانية اتكأت كليةً على الموسيقى والرقص لتحريك المشاعر إيجابًا وسلبًا لا على الكلمات، ولذا دخلت في متاهة من الانحلال والتفسخ؛ ولذا اشتقوا لـلتفعيلة العروضية مسمى foot من حركة القدم أثناء الرقص.
بعكس اللغة العربية-وخاصة في القرآن الكريم- التي تطربك بحروفها، وصفات حروفها الكثيرة (همس وجهر، شدة ورخاوة، استعلاء واستيفال، إطباق وانفتاح، صفير، وقلقلة، ولين، وتفشي، وانحراف وتكرار، وغنة، ومد، وإخفاء، وإقلاب...)، فضلًا عن محتواها الغني المغني في كل مجال.
والشعر العربي قريب من هذا.. على ذات القاعدة: مراعاة حال من يسمع ومن يتحدث والسياق الزماني والمكاني، ولذا يكتفى به طربًا، دون موسيقى وما صحابها.
الأكاديمية كالعجوز الكالحة التي تخفت في ثيابٍ فاخرٍ ونظارةٍ ثمينة وطبقاتٍ من المكياج ووقفت على مكانٍ مرتفع تتحدث من أنفها. ولا تستحق شيئًا من هذا، ولا تكبر إلا في حس من له مصلحة معها أو من يغريه البهرج الخداع دون أن يتأمل التفاصيل والمآلات. فهي إحدى الأدوات لتمرير القيمة العليا للعلمانية الملحدة: الذاتية، وقد أصابت منا مقتلًا!!
وثمة ملاحظة أخرى تتعلق بثمار هذه العبوس المتغطرسة، وهي أنها لم تستطع أن تخاطب الجماهير مباشرةً. احتاجت لواسطتين كي تنقل محتوى خطابها لعامة الناس . فالعامي من الناس حين يفتح كتابًا أكاديمًا أو ينصت لمحاضرة من أكاديمي تدور رأسه وربما يختنق، فيبتعد مشمئزًا نافرًا. ولذا يتواجد في المنظومة العلمانية ثلاثة مستويات من الخطاب: الأول: مستوى إنتاج المعرفة، هذا الذي تستقل به الأكاديميات (الرسائل العلمية، والأبحاث المحكمة، وليس كل ما يتحدث به أكاديمي فكثير من كلامهم عبث)، والثاني: نخبة تبسط المنتوج الفكري لعامة النخبة، وهو خطاب نصف نخبوي، كالذي في مقالات الرأي والندوات العلمية والمحاضرات العامة؛ والثالث: وهو الذي يعنى بالتحدث لعامة الناس، وهذه رسالة الفن في الغالب. ولذا يتعقد المشهد الثقافي. ولذا يُحرف الكلم عن موضعه، فهؤلاء الوسطاء يتحدثون بما يفهمون أو بما يشتهون، يدخلون بين المعرفة ومن يفيد منها، فيكون الانتاج المعرفي المنضبط شيء وما يصل للعوام شيء آخر.
وبهذا فأن الأكاديمية تساهم في تقسيم المجتمع.. فمن خلال هذا التعقيد أصبح في المجتمع ثلاثة مستويات ثقافية: أكاديميون.. متغطرسون في الغالب كأن بهم ما ليس بغيرهم.. كأن الحصول على شهادة أكاديمية تصريح للحديث في كل شيء وأمارة على فهم كل شيء!!؛ وعامة الناس، وبينهما نخبة مثقفة تبحث عن رزقها من هؤلاء وهؤلاء يقومون بدور تسويق ما يشتهون من معرفة؛ ما يعنى أن الأكاديمية تعمل كأداة تفتيت في المجتمع، كما هو حال منظومتها العقدية التي جاءت منها: تفتت المجتمعات.. تحويله إلى شيعٍ.. تكتلاتٍ ثقافية وغير ثقافية.. أحزاب.
بخلاف النموذج الإسلامي فأعلى خطاب عندنا (القرآن الكريم والسنة النبوية)، مع عمقه وحمولته بالمعاني والبيان إلا أنه لا يحتاج لمن يترجم له أو عنه. يفهمه الجميع. ويقرأه الجميع. بل ويتردد على لسان الجميع كأمثلة وعبر تستحضر في المواقف.
وما حول القرآن الكريم (الأدب والشعر) في لغتنا الجميلة، يفهمه الجميع ويستحضره الجميع، والشاعر قديمًا-على عظم مكانته- كان يخاطب الجميع بلغةٍ سهلة؛ وإلى اليوم الخطاب العربي يصل الجميع اللهم إلا أن يتعاطى المتحدث شيئًا من عند هذه العبوس المتغطرسة!!
نعم الأكاديمية تخدم أهلها، فهي أداة لنقل القيمة العليا عندهم (الذاتية) (الفردية) (الأنا)، وأداة لتقسيم المجتمع وتعقيد الحياة الثقافية، ولا تكبر إلا في حس من يستفيد منها أو من لا يعرفها.
محمد جلال القصاص