ترى الظالمين مُشْفِقِينَ مما كسبوا
أبو الهيثم محمد درويش
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
- التصنيفات: التفسير -
{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} :
الظالمون يوم القيامة في أشد المواقف خزياً وخوفاً مما قدمت أيديهم بعدما عاينوا العذاب واقعاً ملموساً, بينما أهل الإيمان في النعيم المقيم قلوبهم مطمئنة و نفوسهم راضية , لهم كل ما تشتهي أنفسهم من أنواع النعيم , بشرى من الله لعباده الصالحين , بشرهم بها على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أرسله لينذر الكافرين و العاصين و يبشر المؤمنين الطائعين , دون أن يسألهم دنيا أو ينتظر منهم أجراً إلا المحبة في الله و طاعته و الإحسان في العمل.
قال تعالى:
{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} . [الشورى 22-23]
قال السعدي في تفسيره:
وفي ذلك اليوم { {تَرَى الظَّالِمِينَ } } أنفسهم بالكفر والمعاصي { {مُشْفِقِينَ} } أي: خائفين وجلين { { مِمَّا كَسَبُوا } } أن يعاقبوا عليه.
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه، وقد لا يقع، أخبر أنه { {وَاقِعٌ بِهِمْ} } العقاب الذي خافوه، لأنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب، من غير معارض، من توبة ولا غيرها، ووصلوا موضعا فات فيه الإنظار والإمهال.
{ {وَالَّذِينَ آمَنُوا } } بقلوبهم بالله وبكتبه ورسله وما جاءوا به، { { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } } يشمل كل عمل صالح من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، فهؤلاء { فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } أي: الروضات المضافة إلى الجنات، والمضاف يكون بحسب المضاف إليه، فلا تسأل عن بهجة تلك الرياض المونقة، وما فيها من الأنهارالمتدفقة، والفياض المعشبة، والمناظر الحسنة، والأشجار المثمرة، والطيور المغردة، والأصوات الشجية المطربة، والاجتماع بكل حبيب، والأخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب، رياض لا تزداد على طول المدى إلا حسنا وبهاء، ولا يزداد أهلها إلا اشتياقا إلى لذاتها وودادا، { {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ } } فيها، أي: في الجنات، فمهما أرادوا فهو حاصل، ومهما طلبوا حصل، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. { {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } } وهل فوز أكبر من الفوز برضا الله تعالى، والتنعم بقربه في دار كرامته؟
{ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} } أي: هذه البشارة العظيمة، التي هي أكبر البشائر على الإطلاق، بشر بها الرحيم الرحمن، على يد أفضل خلقه لأهل الإيمان والعمل الصالح، فهي أجل الغايات، والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل.
{ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} } أي: على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه. { { أَجْرًا } } فلست أريد أخذ أموالكم، ولا التولي عليكم والترأس، ولا غير ذلك من الأغراض { { إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} }
يحتمل أن المراد: لا أسألكم عليه أجرا إلا أجرا واحدا هو لكم، وعائد نفعه إليكم، وهو أن تودوني وتحبوني في القرابة، أي: لأجل القرابة. ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان، فإن مودة الإيمان بالرسول، وتقديم محبته على جميع المحاب بعد محبة الله، فرض على كل مسلم، وهؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك أن يحبوه لأجل القرابة، لأنه صلى الله عليه وسلم، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه، حتى إنه قيل: إنه ليس في بطون قريش أحد، إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه قرابة.
ويحتمل أن المراد إلا مودة الله تعالى الصادقة، وهي التي يصحبها التقرب إلى الله، والتوسل بطاعته الدالة على صحتها وصدقها، ولهذا قال: { {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} } أي: في التقرب إلى الله، وعلى كلا القولين، فهذا الاستثناء دليل على أنه لا يسألهم عليه أجرا بالكلية، إلا أن يكون شيئا يعود نفعه إليهم، فهذا ليس من الأجر في شيء، بل هو من الأجر منه لهم صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: { { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } } وقولهم: "ما لفلان ذنب عندك، إلا أنه محسن إليك"
{ {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } } من صلاة، أو صوم، أو حج، أو إحسان إلى الخلق { {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } } بأن يشرح الله صدره، وييسر أمره، وتكون سببا للتوفيق لعمل آخر، ويزداد بها عمل المؤمن، ويرتفع عند الله وعند خلقه، ويحصل له الثواب العاجل والآجل.
{ { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } } يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت عند التوبة منها، ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير، فبمغفرته يغفر الذنوب ويستر العيوب، وبشكره يتقبل الحسنات ويضاعفها أضعافا كثيرة.
#أبو_الهيثم
#مع_القرآن