ذنوب الخلوات: المقال التاسع

محمد علي يوسف

الصادق في رغبته التوبة وندمه على ما فات يود أن يقيه الله فيما هو آتٍ، والتائب لحظيا وهو يضمر العودة يعيش حالة من الكذب ليس على نفسه فقط ولكن الأهم أنه يكذب على ربه.

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله - دعوة المسلمين - الطريق إلى الله -

إن سبل مواجهة العواقب القلبية لمعصية السر وذنوب الخلوات مهمة للغاية وتشكل دورا محوريا لكي لا تتحول تلك المعاصي إلى انتكاسة كاملة وتردٍ تام كما أجمع العارفون على كون معاصي الخلوات هي أصل الانتكاسات ونقل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله
مشاعر كاليأس والقنوط والإحباط واللامبالاة والاعتياد ثم الفجور عياذا بالله هي طامات إن تُركت ولم يتم علاجها وسرعة مجابهتها فإنها قد تؤدي في النهاية لذلك المصير المظلم.

لا مانع إذا من الطمأنة وبث الأمل في إمكانية التوبة وترسيخ معاني التعويض ومحاولة محو آثار خطايا السر من خلال التفكير الإيجابي النابذ للقنوط والقعود و الذي فصلنا الحديث عنه في المنشورات السابقة ضمن هذه السلسلة، لكن لا ينبغي الاكتفاء بهذا الجانب القلبي أبدا وإلا أدى عدم التوازن كالعادة إلى أثر عكسي غير مرغوب كأن يتصالح عاصي السر مع تلك المعصية ويعتبرها قدرا محتوما لا فكاك منه ومن ثم يغفل أو يتغافل عن ركن مهم وأصل عظيم من أركان العبودية وأصول التوبة.

يتغافل عن القرار، عن قرار ترك الإثم واتقاء الفحشاء واجتناب الحرمات، وعن المجاهدة لتحقيق ذلك القرار. إن هذا القرار الحاسم هو الخط الفاصل بين الصدق والكذب حتى لو تم اختراقه بعد ذلك وضعفت النفس أحيانا عن الحفاظ عليه فإنه يظل معيار صدق نفيس لحظة التوبة، إنه قرار الإقلاع عن الذنب، قرار الكف عن انتهاك حرمات الله ، قرار التوقف عن مبارزته بالخطايا، وهو قرار صعوبته تكمن في لحظة واحدة ما بعدها أيسر، إنها لحظة اتخاذه، لحظة مجابهة النفس وقمع الهوى ومواجهة الشهوة بكلمة حاسمة قاطعة.

كلا.. 
قضي الأمر، انتهينا يا رب. من دون ذلك القرار القاطع وتلك المواجهة الحاسمة فما التوبة إلا دعاوى لا يصدقها العمل، لكنه يقرر ويحسم ثم يتبع ذلك بالعزم، تلك القيمة الجامعة التي لما لم يجدها مولانا في جدنا الأكبر كان الهبوط من الجنة: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] ، والعزم على عدم العودة للذنب شرط أصيل من شروط التوبة ذلك لأنه مرتبط بأمرين: الصدق والأدب.

فالصادق في رغبته التوبة وندمه على ما فات يود أن يقيه الله فيما هو آتٍ، والتائب لحظيا وهو يضمر العودة يعيش حالة من الكذب ليس على نفسه فقط ولكن الأهم أنه يكذب على ربه.

أي توبة هذه التي تكون بين يديها تلك النية الخبيثة بأنه عائد إلى الذنب بعد حين؟!
وأي تأدب مع الله ذلك الذي يزعمه ذلك الذي سولت له نفسه وصورت له أنه سيخدع مولاه؟!

لا أتحدث هنا عن ذلك الذي يعلم من نفسه ضعفا ويدرك احتمالية وقوع الزلة والهنة فكلنا هذا الرجل، لكن ثمة فارق بين إدارك احتمالية وإدراك يقين وقوع، ما على الإنسان هو العزم وانعقاد النية الآني في تلك اللحظة التي تحدثت عنها في البداية، لحظة القرار.

وهنا لابد من نية وحسن ظن، لابد من قوة ولو مؤقتة، لابد من تجاهل لهذا الاحتمال القائم بالعودة ، فإن عدت فأعد الكرة، عد وتب، ثم عد فتب، ثم عد فتب، ولا تمل فإن الله لا يمل حتى تمل.

ولهذا الإقلاع والعزم على دوامه سبل عملية نفصلها في المنشورات القادمة إن شاء الله