تخريج حديث: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)
ألَم تر ربَّك قد جعل جزاء السيِّئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها، وعند التَّطبيق تغلب صفات رحمته -سبحانه- فيعفو عن السيِّئة ويُجازي بالحسنة إلى سبعِمائة ضعف، وهذا جانب عظيم في الشَّريعة ربَّما لا تَجِده مكتوبًا..
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
قال الترمذي في "سننه":
حدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمانَ الضُّبَعِىُّ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الحَسَنِ، عَن عبد اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَن عَائِشَةَ، قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أرَأيْتَ إنْ عَلِمْتُ أيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أقُولُ فِيها؟ قَالَ: «قُولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ [1] تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
تخريج الحديث:
رواه إسحاق (1361)، عن النَّضْر بن شميل، وأحمد (6/171)، عن غندر، وأحمد (6/208)، وابن ماجه (3850)، من طريق وكيع، والترمذي (3513)، والنسائي في الكبرى (872، 10708)، من طريق جعفر بن سليمان الضبعي، و(779، 10709، 11688)، من طريق خالد بن الحارث، (خمستهم)، عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة.
وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشَّيخين، قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح، وصحَّحه النَّووي في "الأذكار" (ص: 248)، وفي المجموع (6/ 459).
ورواه النسائي (874، 10710)، من طريق المعتمر، عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة: أنَّ عائشة.
قال النَّسائي: مرسل؛ يعني بذلك قوله: أن، وليس عن، وهذا واضح من أنه روى الحديث من عشر طرق ولم يذكر هذه العبارة إلا في هذا الطريق فقط.
ورواه أحمد (6/182، 183)، ورواه البيهقي في "الشعب" (3426)، من طريق الحسن بن مكرم، كلاهما (أحمد والحسن)، عن يزيد بن هارون، ورواه أحمد (6 /183)، والبيهقي (3427)، من طريق علي بن عاصم، والنسائي (10711)، والقضاعي في "الشهاب" (1477)، من طريق عبد الرحمن بن مرزوق، والقضاعي (1474)، من طريق خالد بن عبد الله، (أربعتهم)، عن أبي سعيد الجريري، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة به.
ورواية يزيد عند أحمد: أنَّ عائشة، ورواية الحسن عنْه قال: قال يزيد: لا أعلمُه إلاَّ قال ثلاثًا عن عائشة.
وأبو مسعود الجريري: سعيد بن إياس الجريري البصري، أحد العلماء الثِّقات الأثبات؛ ولكنَّه اختلط قبل موتِه بنحو ثلاث سنين، ولم يكنِ اختلاطه فاحشًا، ورواية يزيد بن هارون عنْه بعد الاختِلاط، ولكن رواية خالد بن عبد الله -وهو الواسطي- عنْه عند الشيخين، وكذا تابعه سفيان الثَّوري وروايته عنه قبل الاختلاط، واختلف عليْه فيها.
رواه إسحاق (1362)، والبيهقي في الأسماء والصفات (92)، عن عمرو بن محمد العنقزي، والنسائي في الكبرى (10712)، من طريق مخلد بن يزيد، والقضاعي (1475)، من طريق علي بن قادم، (ثلاثتهم)، عن سفيان الثوري، عن الجريري به.
ورواه أحمد (6/ 258)، والنَّسائي في الكبرى (10713)، وأبو يعلى في معجمه (403)، والطَّبراني في الدعاء (916)، والحاكم (1/712)، والقضاعي (1478)، من طريق الأشْجعي، عن سفيان الثَّوري، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن عائشة به.
وإسنادُه صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخَين، والأشجعي هو عبيد الله بن عبيد الرحمن ثقة إمام ثبت مأمون، من أثبت النَّاس كتابًا في الثوري، فكلا الطَّريقين محفوظان عن الثوري.
وقال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرْطِ الشَّيخيْن ولم يُخْرِجاه.
وبعدُ:فقد قال الدَّارقطني في السنن (3/ 233): "عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا"، وكذلك قال البيهقي تبعًا له، ولم يطعن أحدٌ قبل الدَّارقطني في رواية ابن بريدة عن عائشة فيما علمت، وقد صحَّحه من صحَّحه كما سبق، وأكثر العُلماء يحتجُّون بهذا الحديث في إثْبات اسم العفوّ لله تعالى ويثبتونه، ويذكرون هذا الحديث في مساق الاحتِجاج، وليس هذا منْهم إلاَّ قبولاً وتصحيحًا للرِّواية، فأسماء الله وصفاتُه لا تثبت إلاَّ من طريق صحيحِ الأخبار.
وأمَّا نفي سماع ابنِ بُريدة من عائشة، ففيه بحث، هاك تفصيلَه وبيانه:
روى عبد الله بن بريدة عن أبيه (ت: 63)، وعن معاوية (ت: 60)، وعن عمران (ت: 52)، وعن سمُرة بن جندب (ت: 58)، وعن ابن مغفل (ت: 59)، وابن عمر (ت: 73)، وروايته عنهم ثابتةٌ في الصَّحيح وغيره، وسماعه منهم غير مُنْكر، وعائشة - رضي الله عنْها - تُوُفِّيتْ سنة: 57هـ، على الصَّحيح، كما قال ابن حجر.
قال ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 139) في ترجمة عبد الله بن بُريدة، وقد ساق إسْناده إلى ابن حبَّان، قال ابن عساكر: وذكر حديثًا من رواية ابن بريدة عن عمران بن حصين، فقال - يعني ابن حبَّان -: هذا إسنادٌ قد يُوهِم مَن لم يُحْكِم صناعة الأخْبار، ولا تفقَّه في صَحيح الآثار - أنَّه منفصِل غير متَّصل وليس كذلك؛ لأنَّ عبد الله بن بُريْدة وُلِد في السَّنة الثَّالثة من خلافةِ عُمَر بن الخطَّاب، سنة خمس عشرة، هو وأخوه سليمان بن بريدة إخوة توءم، فلمَّا وقعتْ فِتْنة عثمان بالمدينة، خرج بريْدة منها بابنيْه وسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين وسمُرة بن جندب، فسمِع منهما، ومات عمران بن حصين، سنة اثنتين وخمسين، في ولاية معاوية، ثم خرج بُريْدة منها بابنيْه إلى سجستان، فأقام بها غازيًا مدَّة، ثم خرج منها إلى مرو على طريق هراة، فلمَّا دخلها قطنها، ومات سُلَيْمان بن بريدة بمرْو وهو على القضاء بها، سنة خَمْس ومائة، وولي أخوه بعده القضاء بها، فكان على القضاء بمرو إلى أن مات، سنة خَمس عشرة ومائة، فهذا يدلُّك على أنَّ عبد الله بن بريدة سمع عمران بن حصين". اهـ.
فإن كان لم يخرج إلى مرو قبل ذلك، وقد صحَّ سماعه من ابن عمر، فقد تيقنَّا أنَّه سمعه من قبل خروجه إلى مرو، وابن عمر مقامه بالمدينة، وكذلك عائشة مقامها بالمدينة، فما يبعد سماعه منها، على أنَّ روايته عن عمران في البخاري، وقد صرَّح بالسماع، هذه واحدة.
وقد صحَّ شهودُه مقتل عثمان يوم الدَّار، رواه ابنُ عساكر (27/ 129) من طريق أبي زرعة، حدَّثنا أحمد بن شبويه، حدَّثنا الفضْل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال: جئتُ إلى أمِّي يوم قتل عثمان، فقلت: يا أمَّه، قُتِل الرجل، فقالت: يا بنيَّ، اذْهَب فالْعب مع الغِلْمان.
وكان سنُّه يومئذٍ نحو 20 عامًا، فقد كان مولِده في عهْد عُمر سنة 15 هـ، وأمَّا قوْل والدتِه له، فتعْنِي قطعًا أنَّ هذا الأمر ليس إليْك، ولا شأْنَ لك به، وإلاَّ فهذه السِّنُّ - كما لا يخفى - ليست سنَّ الغلمان، وهي سنُّ التحمُّل والأداء باتِّفاق، ومهْما يكن من أمر فما يبعد سماعه منها كذلك، وقد علِمنا أنَّه لم يخرج من المدينة قبل هذه السِّن، وهذه كافية وهي الثَّانية، والثَّالثة فيها بحث.
فقد صحَّ كذلك دخولُه مع أبيه على معاوية بالشَّام، وأظنُّها قبل دخولِه البصرة، فهذه رحلة لم يذْكُرْها ابن حبَّان، فقد قال ابن عساكر (27/126): "ووفدَ على معاوية مع أبيه". اهـ.
وروى ذلك ابنُ عساكر من طريق أبي زرعة، حدَّثنا أحمد بن شبويه، حدَّثنا علي بن الحسين، عن أبيه، حدَّثني عبد الله بن بريدة قال: دخلت مع أبي على معاوية.
ومن طريق عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدَّثنا زيد بن الحباب، حدَّثني حسين، حدثني عبد الله بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجلَسَنا على الفرش، ثم أُتِينا بالطعام فأكلْنا، ثمَّ أُتِينا بالشَّراب فشَرب معاوية ثمَّ ناول أبي - وذكر الحديث، وهو في المسند (5/347).
وقضيَّة إنْكار سماعه منها ترجع إلى اعتِبار شرْط ثبوت اللقي ولو مرَّة، وأمَّا على من لا يشترط ذلك، فلا حاجةَ إلى هذا البحْث، ولكن نقول:
قد روى عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود ظالم بن عمرو، وقد توفي سنة 69 هـ، بالبصرة، وهو بصري مولدًا ووفاةً، ورِوايتُه عنْه في الصَّحيحين بلا واسطة، بالعنْعنة، وروى عنْه بِواسطة يَحيى بن يعمر، ورِوايته عن يَحيى عن ظالم أبي الأسود عندهما كذلك، وقد أنْكر الدار قطني روايته هذه عن أبي الأسْود وأنَّه لم يسمع منه، وهذا من جُملة ما انتقده على البخاري، وإذا كان أبو الأسود بصريًّا مولِدًا ووفاةً، وعبد الله بن بريدة نزل البَصرة، وبالنَّظر إلى تاريخ رحلته السَّابقة، نتيقَّن ونجزم أنَّه نزلها وبها أبو الأسود، فإنْ أنْكَر سماعَه الدار قطني منه، فلأن ينكر سماعه من عائشة من باب أوْلى، وقول الدار قطني هنا معارَضٌ بقول البُخاري صاحب هذا الشَّرط، ولا يقول أحدٌ إنَّه خالف شرْطَه، غايته أنَّه قد خفِي عن الدار قطني وعنَّا ما قد علِمَه هو، أيضًا إن صحَّ فروايته عن أبي الأسود غايتُها أن يكون بيْنهما يحيى بن يعمر، فلا يضرُّ في صحَّة الحديث.
وهنا غرْزٌ نستمْسِك به، وهو أنَّ رواية ابن بريدة عن عائشة أيضًا إمَّا بلا واسطة بالعنْعنة، أو بيْنهما يَحيى بن يعمر أيضًا، فالَّذي نجزم به: أنَّه إن لم يكن سمِعَه منْها، فقد احتمله من ابن يعمر.
يؤيِّد ذلك أنَّ رواياتِه عنِ الصَّحابة إمَّا سماعًا صحيحًا، أو معنعنًا، أو بواسطة ابن يعْمر، أو بإحْدى اثنتين من الثلاث، يقوِّي ذلك ويقرِّبُه، ويُدْنيه ويدفع الاستِنْكار ويجليه - أنَّ ابن يعمر هو قاضي مرو كابن بريْدة، وهو من طبقته، وقد نزل البصرة وارتَحل إلى مكَّة والمدينة، وسمع من عائشة وابن عبَّاس وغيرهما، وعنْه روى ابن بريدة عن كلِّ مَن روى عنْه من الصَّحابة، خلا اثنين، ربَّما، فكلاهما نزل البصرة، وكلاهما كان قاضيًا بمرو، وابن بريدة راوية عن يحيى بن يعمر، فما الذي يُنْكَر الآن؟
على أنَّه قد سبق أنَّ رواية ابن بُريْدة عن ابن عمر كانت بالمدينة على الأرْجح، فكلاهما أيضًا نزل المدينة، والله أعلم.
ولقائل أن يَقول متهوِّرًا: لم تصنع شيئًا، ولم يثْبُت اللقي.
نقول: قد رُمْت هدْم الشَّريعة، مقيِّدًا نفسَك بأغلال التمسُّك بالقواعد بلا روح ولا حياة.
ألَم تر ربَّك قد جعل جزاء السيِّئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها، وعند التَّطبيق تغلب صفات رحمته -سبحانه- فيعفو عن السيِّئة ويُجازي بالحسنة إلى سبعِمائة ضعف، وهذا جانب عظيم في الشَّريعة ربَّما لا تَجِده مكتوبًا؛ ولكن تَجِده مطبَّقًا من عُلَماء الأمَّة كافَّة، لاسيَّما أولئك الذين فهِموا مقاصد الشَّريعة الحنيفيَّة، وبالنَّظر في مضْمار الحديث وأهلِه، فهل رأيت حديثًا يرويه أحمد متفرِّدا عن الشَّافعي متفرِّدا عن مالك؟ كيف يحكم له جهابذة العلماء بالتواتر، وهذا جانب آخر؟ وهل بلغك العمل بالقرائن وما تحتفّ به القضايا؟ وهذا باب ينتظِم الشَّريعة بأكملها، لو أُغْلِق فشرٌّ مستطير وفسادٌ كبير!
والحاصل: أنَّ عبد الله بن بريدة قد عاصر عائشةَ بالسِّن زمانًا طويلاً، ولو لم يثبت لقيُّه لها في بلدةٍ واحدةٍ، أو مصرٍ من الأمصار، لصحَّت روايته عنْها على شرْط مسلم، نعم، ولم تصحَّ على شرط البخاري؛ ولكن أن يَجتمع هو وهي في بلدةٍ واحدة؛ بل ويلتقي مَن هو أكبر من عائشة، مع ثِقَته وإمامته، وأمانته وصيانته، وورعِه وعلمه وفقهه، والاتِّفاق على الاحتِجاج به، هذا - بلا شكٍّ - يقرب من شرْط البخاري، من جهة أنَّ الاحتمال هنا يقوى، بل يقوى جدًّا، لاسيَّما وهذا صنيع البُخاري نفسِه مع رواية ابن بريدة عن أبي الأسود، فكيف وقد روى عمَّن روى عنْها وعن غيرها، ولم يعلم له احتِمال شيء من الحديث إلاَّ من هذه الجهة، وليس هو ممن عرف عنه الإرسال والتَّدليس، ولا تجِد أحدًا من أهل هذا الفنِّ قبل الدَّارقطني ذكره بشيء من ذلك؟!
وهذا الَّذي جعل البخاري يُدْخِل روايته عن ظالم بن عمرو في صحيحِه، مع إنكار الدَّارقطني أيضًا لها، وقضيَّتنا هنا مع عائشة مثلاً بمثل على التَّمام الذي هو أحسن، والَّذي قيل هنالك يقال هاهنا، يدًا بيد، سواء بسواء.
فالذي يُنكر سماعه من عائشة ليس لديْه إلاَّ شرط البُخاري وشيخه ابن المديني، من ثبوت اللقيّ ولو مرَّة، فيقول متعسِّفًا: ولم يثبت هنا، هكذا تقول النظريَّة أو القاعدة.
فنقول: فليضعف إذًا حديث البخاري، وليركب سبيل الإنْصاف، وليكن ذلك حكمه في كلِّ ما يقابله من أحاديث، أن يُجْرِي عليها شرط البخاري أبدًا، وهيهات! فلا يركب هذا السَّبيل في هذا العصر إلا أقل القليل، فالكلُّ قد ركِب سبيل مسلم في تصحيح الأحاديث دون اعتِبار هذا الشَّرط.
على أنَّا نقول: نعم، شرْط البخاري أشدُّ وأوثق؛ بل أرْجح عند حذَّاق هذا الفنِّ، ولكن هاهنا قرائنُ قويَّة متعدِّدة، تدفَعُنا إلى الاستِغْناء عن هذا الشَّرط بثبوت اللقيِّ، إلى قبوله مع جُملة هذه القرائن، وهذا ما صنعه البُخاري، صاحب هذه القَاعدة وهذا الشَّرط وتلك النظرية، من روايته حديث عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود، وهذا ما نصنعُه في قبول روايته عن عائشة، فالرِّفقَ الرفق، والأناة الأناةَ، والإنصافَ الإنصاف، والله المستعان.
الكاتب :بهاء الدين الزهري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لم ترد لفظة كريم إلاَّ في هذه الرواية عند الترمذي فقط، وما أراها إلا وهمًا والله أعلم.