أفحكم الجاهلية يبغون ؟

محمد نصر

يريد البعض لهذا الدين أن ينزوي في دور العبادة، وأن ينحصر فهم الصحوة
ودورها في إعادة الناس إلى المساجد لأداء ركعات قليلة كانت أو كثيرة،
ثم العودة بعد ذلك إلى معترك الحياة لممارسة حياة بعيدة كل البعد عن
تعاليم الإسلام..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

يريد البعض لهذا الدين أن ينزوي في دور العبادة، وأن ينحصر فهم الصحوة ودورها في إعادة الناس إلى المساجد لأداء ركعات قليلة كانت أو كثيرة، ثم العودة بعد ذلك إلى معترك الحياة لممارسة حياة بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام.

ونقول لهؤلاء: إن هذا الدين كما جاء لإصلاح العبادات الظاهرة فقد جاء لإصلاح القلوب والضمائر وليحكم الحياة ويصرفها، وليصوغ المجتمع وفق تعاليمه الشاملة، لا بالوعظ والارشاد فحسب، بل كذلك بالتشريع والتنظيم، أي بأعلى صوتنا نقول أن: الإسلام منهج حياة.


فهذا الدين جاء ليترجم مبادئه وتعليماته، نظاما وحياة، ويجعل أوامره ونواهيه مجتمعا حيا وناسا من اللحم والدم، يدبون على هذه الأرض، ويمثلون بسلوكهم ونظام حياتهم وعلاقات مجتمعهم وشكل حكمهم مبادىء هذا الدين وتعاليمه وأحكامه وتشريعاته.

والذين يتحدثون عن فصل الدين عن الدولة.. إنما يلقون حديثا فيه من التفاهة والقزامة ما لا يرتفع إلى شرف المناقشة واحترام الجدل!

إنهم لا يدلون بهذا على جهلهم لطبيعة هذا الدين الرباني الذي لا يقبل الله سواه، ولا بعدهم عن الإلمام بحقائقه البسيطة التي يلام على جهلها المبتدئون، بل يدلون على جهل بكل مقومات الطبيعة البشرية، وكل العوامل المؤثرة في تكوين المجتمعات.

والمضحك المبكي أن هؤلاء على ما يتمتعون به من سذاجة وغفلة، ومن سطحية وبعد عن الثقافة، هم الذين يدعون أنفسهم أو يدعوهم الناس "مثقفين".


لقد سمعوا الأوروبيين يقولون: إن الدين علاقة ما بين الفرد وربه، وليس له أن يتدخل في الحياة المدنية.. فرددوا كالببغاوات هذا الذي سمعوه!

وهم بهذا يدلون على جهلهم لمدى التحريف الذي وقع في التوراة والإنجيل، وكيف أدى هذا بطبيعة الحال إلى صراع نشأ بين الكنيسة والعلمانية، انتهى بانزواء دور الكنيسة داخل الصوامع، ودور الدين في كلمة أو موعظة مؤثرة عن تطهير النفس، ثم تخرج بعد سماعك لها لممارسة حياة لا علاقة لها بما سمعت، فالدين هو فقط ما تمارسه في الكنيسة، أما خارجها فهذا ليس له علاقة بالدين.

وهذا لم يكن إلا لأن دينهم باطل محرف فوجدوا أنه لا تستقيم معه الدنيا والآخرة، فبدلا من اتباع الهدي الرباني الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم اختاروا لأنفسهم الإعراض عن دين الله، ثم بعد ذلك يتبجحون بأنهم متدينون!! {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، ولو أقاموهما حقا لهدوا إلى الصراط المستقيم، ولكنهم يهزلون ويعبثون.


أما في هذا الدين الرباني ديننا الحنيف فقد تكفل الله لنا بحفظه ليقودنا في الطريق ويضع أيدينا على أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، والإنحراف عنه ما هو إلا زيغ وضلال في الدنيا والآخرة، وهل عرفت هذه الأمة أي خير قبل أن يأتيها هذا الدين؟ وهل عرفت أي خير في مرحلة من مراحلها إلا بعد أن عادت للتمسك بهدي محمد صلى الله عليه وسلم والتعاليم التي جاء بها {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]؟


وهذا الدين جاء شاملا فأصلح التوحيد وتوجه الناس إلى الله وحده في كل شيء من توكل ودعاء وخوف ورجاء واتباع وإذعان، وأدرك المسلمون أنه يجب لهم الإذعان لما أنزل الله بتحكيمه في حياتهم كما يجب لهم أن يتجهوا له بقلوبهم وأعمالهم.

ومع وضوح هذه الحقائق وبساطتها، نجد في جيل الأقزام الذي نعيش فيه من يحاول أن يبدو للناس مثقفا جدا! فينعق بفصل الدولة عن الدين؛ لأن الدين يجب أن يتدبر شؤون الروح ويدع الحياة للقوانين الأرضية!

قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49،50].


ثم للأسف نرى أن بعض دعاوى فصل الدين عن الدولة قد انعكس على حياة الفرد المسلم فتجده حريصا على أداء العبادات والمضي فيها قدما، وفي نفس الوقت يرفض أن يصوغ حياته وفقا للمنهج الرباني الحنيف.

وأذكرهم وأذكر نفسي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ».


من تأملات في بعض كتابات سيد قطب رحمه الله
محمد نصر



 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام