في تطبيق الشريعة
محمد جلال القصاص
والأطروحات التي وقفت عليها نقاشات من أشخاص أشبه ما تكون بالتاريخ الشفهي لا بالدراسات العلمية المتخصصة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
عددٌ من الانحرافات الفكرية في الحالة الإسلامية سببها الرئيسي أسئلةُ العلمانيين؛ وأحد أشهر هذه الأسئلة سؤالٌ يفتش عن كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية. وقد اندفع بعضهم في اتجاه أسلمة الدولة القومية وذلك بحديثٍ عن أن الانتخابات هي الشورى، وأن رئيس الدولة هو ولي الأمر، وأن تعطيل الحدود مشروع الآن، وأن بعض الحدود لا أساس لها (كحد الردة)، وأن كثيرًا من الأحكام لم نعد بحاجة إليها (كأحكام أهل الذمة)، وهكذا حتى انتهى هؤلاء إلى أن الدولة الحديثة هي صورة الحكم الإسلامي المعاصر!!
وهذا الخط يسمي نفسه إصلاحيون. ذات التسمية التي أطلقها المنافقون على أنفسهم في عصر النبوة ( {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ) ا [لبقرة:11] ، وقد كان المنافقون يحاولون التوفيق بين المختلفين {ثم جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] ، وهذا الخط نفسه يفاخر بأنه عقلاني تمامًا كما كان المنافقون يوم الأحزاب (يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط)، وكما كانوا يوم الحديبية ( {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} ) ( [الفتح:12] ).
وفي كتاب التصور السياسي للحركة الإسلامية ذكر الشيخ رفاعي سرور-رحمه الله- أننا لا نستطيع تقديم إجابة قبل أن نمتلك واقعًا، مع أن التخيل لحالات افتراضية وصياغة الأحكام لها كان حاضرًا في أول المذاهب الأربعة (مذهب أبي حنيفة رحمه الله)، وأشهر ما صنف في السياسة الشرعية كان خيالًا افترضه إمام الحرمين الجويني، وهو كتاب الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم)!
وسيد قطب-رحمه الله- حلق عاليًا، كحلم أو كأنشودةٍ تطير بالأرواح في عالم الأفراح بعيدًا عن واقعها شديد المرارة. يقول-في فصل المجتمع الإسلامي في كتاب معالم في الطريق-: دعوة فردية تتكاثر حتى تصل إلى اثنا عشر أخًا يكونون المجتمع المسلم؛ ويستدعي ما جاء في الحديث من أن الاثناء عشر ألفًا لا يهزمون من قلة. وهذا صحيح في حق المقاتلين إن كانوا مستعصمين بإيمانهم صادقين في لجوئهم لربهم، ولكننا نتحدث عن مجتمع لا عن سرية عسكرية، وبناء المجتمع غير بناء سرية عسكرية؛ لم يجب الأستاذ سيد قطب على سؤال: تطبيق الشريعة الإسلامية، بل أوحى للذين أنصتوا إليه أنهم جماعة من دون الناس وعليهم أن يتحاكموا فيما بينهم، ودعم ذلك بحديثٍ عن العزلة والاستعلاء، فكان تكفير الناس من بعض الإسلاميين لا دعوتهم، وكان النفاق الاجتماعي، وكانت العزلة من أجل التصفية قبل التحلية والتي تزاوجت مع السلفية النجدية وأخرجت الجامية المدخلية، وكان التعالي على الناس أو الاغتراب والهروب للماضي، وكان البحث عن كيان موازي ضمن شبكة مجتمعية تسيطر الدولة الحديثة على جميع تفاصيلها، فانقسم مجتمع الصحوة إلى جماعات يرى كل منها أن نصرة الدين تبدأ بتمكين جماعته أولًا!!
نمتلك ثلاثة مستويات: قواعد كلية للدين: مثل التوحيد كقيمة مطلقة وباقي كليات الدين الخمس، ونمتلك قواعد فقهية وهذه تستخرج من الجزئيات (اقتناص القطعي من الظني)، ونمتلك تفاصيل (الفقه.. الأحكام الجزئية، تلك التي تتعلق بنشاط الفرد اليومي). والمستوى الأول والثاني حاضر لا يغيب، وثابت لا يكاد يتغير؛ والمستوى الثالث المتعلق بالتفاصيل تصاغ تبعًا للواقع، هذه هي التي لا نستطيع التحدث عنها قبل مجيء واقعها، ولا تحتاج وقتًا فقط نخبة متخصصة تعرف كليات الدين والقواعد الكلية وكيفية الاستنباط منها.
والحالة الإسلامية- بتجلياتها المختلفة- امتلكت واقعًا وحاولت بالفعل تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك في أكثر من مكان: في السودان (الترابي ورفاقه)، والطالبان، والجزائر ابتداءً من فترة شريف القوسمي أبي عبد الله أحمد ت1994م وقد بويع بالإمارة من عامة الإسلاميين في الجزائر وبعض الجماعات في الخارج ودعي (أمير المؤمنين)، وتركيا (الطيب رجب ورفاقه)، وفي حزام الصحراء وخاصة شمال مالي (إمارة تمبكتو وغيرها)؛ وجماعة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجماعة النصرة في مساحة واسعة من أرض الشام، ومن قبل الروافض في إيران (وهم منتسبون للإسلام ويدعون تطبيق الشريعة)، فماذا فعلت الحالة الإسلامية؟!؛ كيف أجابت نظريًا وعمليًا على سؤال كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية؟
يمكننا رصد مسارين: مسار التصالح مع الدولة القومية كليًا أو جزئيًا.. مسار الإصلاحيين.. العقلانيين ودعاة (النهضة)، ويأتيهم- كما يأتي غيرهم- الإخوان على عادتهم في التحرك في المساحة المتاحة.
هذا المسار أراح نفسه، وراح يتحدث عن أن الشريعة مطبقة بالفعل، وأن الواقع يحتاج بعض التعديلات لينهض المسلمون ماديًا ويشاركوا في ريادة العالم أو لينفردوا بها، يطلبون النهوض والريادة بأدوات العلمانية. ويرى أهل هذا المسار الديمقراطية، بهيئتا الغربية أو معدلة تعديلًا يسيرًا، هي الحل، ومنهم من يؤمن بالديمقراطية إيمانًا حقيقيًا، ومنهم من يرى الغرب هو النموذج البشري الأمثل (يؤمنون بالمسار الخطي للتاريخ) الذي يجب أن نذوب فيه أو نسعى لتقليده. ومنهم من يتحدث بمرحلية الإيمان بالديمقراطية أو استخدامها كأداة من أدوات التمكين!!
وعمليًا حين تمكن هذا المسار صُدِمَ بالتحديات الداخلية والخارجية، فتعرض لانشقاقات وخلافات داخلية-كما في الحالة السودانية- وقهرته التحديات الخارجية كما في حالة مصر وتونس بعد الربيع العربي والحالة السودانية أيضًا. لم يستطع فعل شيء حين تمكن من واقع، والناجح منهم هو الذي استطاع إدارة دولاب العلمانية بنكهة إسلامية كما في الحالة التركية.
والمسار الثاني: الحركات المسلحة، وهؤلاء في المستوى النظري اشترطوا لتطبيق الشريعة حالة توحش (فوضى)، فبداية تطبيق الشريعة عندهم انهيار النظام السياسي القائم والدولة، وظهور حالة من الفوضى (التوحش) يبدؤون منها في تطبيق الشريعة أو إدارة التوحش!
وفي التجارب العملية لهذا المسار نلاحظ بشكل مضطرد أنهم حين تمكنوا سارعوا إلى فرض أحكام الشريعة على الناس، نصبوا المحاكم الشرعية وأقاموا الحدود.
وضعتُ مشهد الحالة الجزائرية في التسعينات، والطالبان، والإمارة الإسلامية في الأزواد، وجماعة الدولة الإسلامية (داعش)، وجماعة النصرة، وكيف أنها كلها سارعت لفرض أحكام الشريعة على الواقع الذي ظهروا فيه. وظهر سؤال: هل تفرض أحكام الشريعة على الواقع الجاهلي؟!، هل ما فعلوه صواب؟!!
بعد إعادة النظر مرة بعد مرة في تفاصيل وكليات هذه التجارب ظهرت إجابة أطمئن إليها وهي: أن الشريعة تحتاج واقع معين لتطبق فيه كليةً، وأن تمكن فئة من الناس من السلطة تعني أنهم لابد أن يسارعوا إلى تطوير الواقع كي يناسب أحكام الشريعة.
كل التجارب- مع اختلاف الزمان والمكان- أدت إلى نتيجة واحدة، خلاصتها: أن فرض الأحكام على الواقع المعاصر أدى إلى نفرة الناس وانصرافهم بل معاونتهم للمخالف، والترحيب كان مؤقتًا من أجل فرض الأمن في حالة التوحش (الفوضى).
سؤال تطبيق الشريعة الذي أطلقه علينا العلمانيون لم يتعرض للقدر الكافي من الدراسة والبحث من الناحية النظرية، وتكرر الفشل من الجميع في التطبيق العملي، والذي عكس هشاشة الدراسات النظرية!!
ولم تدرس التجارب الفاشلة!!
لم تطرح الأسئلة عليها للبحث عن أسباب الفشل وكيف يمكن تفاديها؟!
والأطروحات التي وقفت عليها نقاشات من أشخاص أشبه ما تكون بالتاريخ الشفهي لا بالدراسات العلمية المتخصصة.. ويحتاج الأمر لمزيدٍ من سرد الأحداث ومزيدٍ من الدراسة متعددة التخصصات وخاصة أن التجارب تتشابه فداعش لم تبعد كثيرًا عن الجماعة الإسلامية المسلحة.