بر وإحسان.. لا تنازل عن الدين!
هبة حلمي الجابري
هذه هي سماحة الإسلام وسموُّ أخلاقه، ولكن حين يأمر بذلك يأمرك بأن تفعله وأنت عزيز وإسلامك عزيز
- التصنيفات: أخلاق إسلامية -
من أهم أبواب العقيدة: الولاء والبراء لله سبحانه، الذي تغافَل عنه كثيرٌ من الناس، وأهملَه البعض، وكَثُر المفَرِّطُون فيه!
فمعنى الولاء هو حُبُّ الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحِّدين ونُصْرتهم، أما البراء فهو بُغْض من خالَفَ الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحِّدين؛ من الكافرين والمشركين والمنافقين والمبتدعين والفُسَّاق، فيتبرَّأ الإنسان من كل ما تَبَرَّأ الله منه، فالذي يحكم العلاقة بين المسلم وغير المسلم هو علاقة البراء.
قد يقول قائل: إذا كان البراء معناه بُغْض من خالَفَ الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحِّدين، فهل معناه أن الإسلام يُبيح للمسلم أن يتزوَّج من النصرانية، ثم يقول له أن يَكرَهَها ويبتعد عنها؟ أو أنَّ من دخل في الإسلام وجب عليه أن يكره والده ووالدته وإخوته، ويتبرَّأ منهم؟ فكيف يُعقَل ذلك؟!
من يقول ذلك لم يفهم معنى البراء، هل يستطيع أحد أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره عمَّه أبا طالب وهو مشرك -حبًّا طبيعيًّا لا شرعيًّا-؟ هل كان نوح عليه السلام يكره ابنه؟ وهل كان إبراهيم عليه السلام يكره أباه؟
إن الله عز وجل لم ينهَ المسلمين عن حب آبائهم المشركين حُبًّا جبلِّيًّا لا شرعيًّا، بل حذَّرهم أن يكونوا أحبَّ إليهم من الله ورسوله، وجهاد في سبيله؛ لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح؛ يقول تعالى: ﴿ {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ﴾ [التوبة: 24].
فمبنى هذا الكلام على أصل مهم، وهو التفريق بين محبَّة الكافر لأجل دينه وما هو عليه من الباطل، وبين محبَّته لسبب خاصٍّ؛ كعلاقة القرابة أو الزواج، أو حُسْن المعاملة، فهذه المحبَّة الجِبلِّيَّة لا تحرم، كما أنها لا تتعارض مع البغض لهم في الدين والبراء من كُفْرهم، ففرق كبير بين المحبَّة الدينية وبين المحبَّة الطبيعية التي تمليها الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية؛ لكن محبَّة الكافر لملَّته أو لصفة دينية فيه أمرٌ محرَّم بالإجماع.
وهكذا فلا بأس بالتعامل معهم؛ بل إن الإسلام يأمرنا أن نحسن معاملاتهم، ونستطيع أن نستفيد من خبرتهم وتجاربهم، فالحكمة ضالَّة المؤمن أنَّى وجدها، فهو أَولى الناس بها، لكن بشرط ألَّا يخضع المسلم لكافر، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
أما اتخاذ غير المسلم صديقًا بحيث يطَّلِعُ على سِرِّكَ، ويعرف كل شيء عنك فلا؛ لأن الله تعالى نهى عن ذلك فقال سبحانه: ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } ﴾ [آل عمران: 118] وقال سبحانه: ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ﴾ [المائدة: 51]، وقال سبحانه: ﴿ {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} ﴾ [آل عمران: 28]، ولو كان ذا أخلاق عالية وسلوك قويم.
فلهم البر والإحسان، وأباح الإسلام الزواج من نسائهم والأكل من ذبائحهم، والتعامل معهم، بشرط ألا يتعارض ذلك مع عقيدتي وديني وثوابته، ولعل أوضح مثال يوضِّح المقصود ما يُثَار في كل عام من الحديث عن حكم تهنئة النصارى بأعيادهم والاحتفال معهم، ويحتدم الصراع، ونجد مَنْ يُؤيِّد بلا قيود، وبأسلوب فج - يثير كل مَنْ يغار على دينه - فنراه يدعو إلى الاحتفال معهم، ويُغرِّد بأجمل التهاني بأعيادهم بعبارات فيها تأييد لما هم عليه، ويُردِّد ما يقولونه في أعيادهم بألفاظ مخالفة لعقيدة المسلمين، ويعتبر ذلك من باب البر والإحسان، والأدهى والأمرُّ أنه قد يفعل ذلك بشكل مبالغ فيه نكاية فيمن ينصحه ويذكره بأن ذلك لا يجوز شرعًا.
صحيح أن الإسلام يأمر بالبر والإحسان بأهل الكتاب؛ فقد قال تعالى في كتابه: ﴿ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ﴾ [الممتحنة: 8، 9]، والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسُّع فيه، فهو أمرٌ فوق العدل، وهي الكلمة التي يُعبِّر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وهو بر الوالدين.
وإذا كان الإسلام لا ينهى عن البر والإقساط إلى مخالفيه من أي دين، ولو كانوا وثنيين مشركين -كمشركي العرب الذين نزلت في شأنهم الآيتان السالفتان - فإن الإسلام ينظر نظرة خاصة لأهل الذمة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (( «ألا مَنْ ظلمَ معاهَدًا، أوِ انتقصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ، فأَنا حَجيجُهُ يومَ القيامةِ» ))، وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه كان يقول: " «أوصيكم بذمة الله؛ فإنها ذمَّة نبيِّكم"، وكان يقول: "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمَّة خيرًا، أن يفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم وألا يُكلَّفُوا فوق طاقتهم» ".
وهذه هي سماحة الإسلام وسموُّ أخلاقه، ولكن حين يأمر بذلك يأمرك بأن تفعله وأنت عزيز وإسلامك عزيز، فلا يصدر منك أي فعل أو قول يدلُّ على تأييدك ورضاك بما هم عليه من باطل، ولا تتفوَّه بما يخالف عقيدتك.
إن مما يجعل قلب كل مسلم حرًّا أبيًّا، يتفطَّر حُزْنًا وألَمًا على ما وصل إليه حال بعض المسلمين، ما يجده من تنازل عن ثوابت الدين والهوية الإسلامية بدعوى البر والإحسان بغير المسلمين، فيشاركهم الاحتفال بأعيادهم على ما فيها من خلفيات عقدية تُخالف عقيدة المسلم، ذلك أن عيد الأمة من أخصِّ خصوصيَّاتها، يدخل في صميم معتقداتها، وفي صميم ثقافتها، فإذا شاركت أمة ليست مسلمةً في أعيادها، وفي عاداتها، وفي تقاليدها، تكون قد اتجهت إليها، وواليتها، وأحببتها، وأنت لا تشعُر.
وروى الطبراني وأبو داود عن ابن عمر وحذيفة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( «(مَنْ تَشَبَّه بقُومٍ فهو منهم» ))، وروي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: " «مَنْ مَرَّ ببلادِ الأعاجمِ فصنع نَيروزَهم ومهرجانَهم، وتَشَبَّه بهم حتَّى يموتَ، وهو كذلك حُشِرَ معهم يومَ القيامةِ» ".
يفعل ذلك وقد سمِعَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما بالجاهلية فقال: (( «قدمتُ عليكم ولكمْ يومانِ تلعبونَ فيهما في الجاهليةِ، وقد أبدَلَكُم اللهُ بهما خيرًا منهما: يوم النَّحْرِ، ويوم الفطرِ» ))، فلم يقرَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يعتبره من البر والإحسان باليهود الذين عقد معهم العهود، وأمر بعدم ظُلْمهم، وجاء الإسلام بالإحسان إليهم مالم يكونوا محاربين.
يحتفلون معهم بميلاد ابن الرب، كما يزعمون كذبًا وبهتانًا - ﴿ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ﴾ [الكهف: 5] - دعوى باطلة تكاد السماوات يتفطَّرْنَ منها، وتنشقُّ الأرض وتخِرُّ الجبال هدًّا؛ قال تعالى: ﴿ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } ﴾ [مريم: 88 - 92].
يقبلون الدَّنِيَّة في دينهم، وغيرهم يعتزُّ بدينه؛ فما وجدنا نصرانيًّا يحتفل مع المسلمين بعيد الفطر وعيد الأضحى!
لماذا لا تعتزُّ بدينك، وتفخر بانتمائك له؟
لماذا لا تُظهِر للجميع أن دينك هو دين الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه؟
لماذا لا تقول لهم هذا الدين الذي أفتخر به، والذي أمرني بالبر بكم والإحسان إليكم، وعلَّمني سموَّ الأخلاق، جدير بأن أجعله فوق الجميع؟
لماذا لا تجبرهم على احترام دينك باحترامك أنت له؟
لو كنت تعتزُّ بدينك حقًّا لالتزمت بتعاليمه، ولحرصتَ على أن يعلوَ ولا يُعلى عليه، وأن تظهر هُوِيَّتك الإسلامية في كل أفعالك وأقوالك وسلوكياتك، ولما أقررتَ غيرك على عقيدته الباطلة، ولما كنت سببًا في إظهار الباطل وتقويته، ولعرفتَ في قرارة نفسك أن دينك وعقيدتك خطٌّ أحمر لا يمكن أن تتنازل عنه، ولا أن تخجل أن تقول لشيء يمس عقيدتك: "لا".
فاعتزُّوا بدينكم رحمكم الله.