أسباب حبوط الأعمال غير الكفرية

أبو حاتم سعيد القاضي

فاحذر يا أخي الرياء؛ فإن خطره عظيم، وشره كبير، فمع أنه يحبط عمل صاحبه فقد صحَّ أنه: من صفات المنافقين.

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -

1- الرياء:

قال الله تعالى: { {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} } [هود: 15، 16].

قال بعض أهل التفسير: نزلت في أهل الرياء، وذلك أن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، فمن عمل صالحا التماس الدنيا، صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، فإن الله يوفيه الذي التمس في الدنيا، ويحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشرك، من عمِلَ عملًا أشركَ فيه معي غيري تركتُه وشِركَه» " ([1]).

وعن محمود بن لَبيد رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " «إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغرُ"، قالوا: وما الشركُ الأصغرُ يا رسولَ الله؟ قال: "الرِّياءُ، يقولُ الله عزَّ وجلَّ لهم يومَ القيامةِ إذا جزَي الناسَ بأعمالِهم: اذهبُوا إلى الذين كنتم تُرَاءُونَ في الدنيا فانظُروا، هل تجِدونَ عندهم جزاءً؟» " ([2]).

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «بشِّرْ هذه الأمةَ بالسَّناءِ، والنصرِ، والتمكينِ، فمن عمِلَ منهم عمَلَ الآخرةِ للدنيا، لم يكُن له في الآخرةِ نصِيبٌ» " ([3]).

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله الله عنه قال: «جاء رجلٌ إلى النبي رضي الله عنه، فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، مالَه؟ فقال رسول الله رضي الله عنه: "لا شيء له". فأعادها ثلاث مراتٍ، يقول له رسول الله رضي الله عنه: "لا شيء له"، ثم قال: "إن الله لا يقبَلُ من العملِ إلا ما كان له خالصًا، وابتُغِيَ به وجهُه» " ([4]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " «من تعلَّم علمًا مما يُبتَغى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلَّمُه إلا ليُصِيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يجِدْ عرْفَ الجنة يومَ القيامة» " ([5]).

فاحذر يا أخي الرياء؛ فإن خطره عظيم، وشره كبير، فمع أنه يحبط عمل صاحبه فقد صحَّ أنه: من صفات المنافقين.

وأنه سبب لعذاب صاحبه في الآخرة.

وأنَّ صاحبه متوعَّد بالويل.

وأنه متوعَّد بالفضيحة.

قال أهل العلم: والرياء هو: أنْ يعملَ عملاً مما يُتَقرَّبُ به إلى الله يريد به ثناءَ الناسِ عليه. وحقيقةُ الرِّياءِ طَلَبُ ما في الدُّنيَا بالعِبادَةِ، وأصلُه طلَبُ المَنْزِلَةِ في قلوبِ النَّاسِ.

والرِّياءُ منه ما هو شِرْكٌ أكبرٌ مُخْرِجٌ من المِلَّةِ كرياءِ المنافقين الخُلَّصِ، وفيهم قال الله تعالى: { «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» } [النساء : 142].

ومنْه ما هو شِرْكٌ أصغرٌ كرياءِ المؤمنِ الذي يعملُ العملَ لله تعالَى، ثم يدخُلُه الرِّياءُ، أو يكونُ فيه ابتداءً، لكنَّه لا يرائي في جميعِ عملِه، وهذا وُصِفٌ بالشِّرْكِ للتَّغلِيظِ والزجِر، وسُمِّى شركًا لأنه يجِبُ أن تكون العبادةُ لله وحدَه، لكنَّ هذا المرائي جاءَ فأشْرَكَ مع الله تعالى أحدًا في العبادةِ.

2- التألي على الله:

عن جُندَب بنِ عبد الله رضي الله عنه،  أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلًا قال: والله لا يغفِرُ الله لفلانٍ، وإنَّ الله تعالى قال: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفِرَ لفلانٍ، فإني قد غفرْتُ لفلانٍ، وأحبطْتُ عملَك، أو كما قال ([6]). معنى يتألى: يحلف.

وعن ضَمضم بن جَوْس رحمه الله قال: قال أبو هريرة سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان رجلانِ في بني إسرائيلَ مُتَواخِيَين، فكان أحدُهما يُذنِبُ، والآخرُ مجتهِدٌ في العبادةِ، فكان لا يزالُ المجتهدُ يرى الآخرَ على الذنبِ فيقول: أقصِر.

فوجده يومًا على ذنبٍ، فقال: خلِّني وربي، أَبُعثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفِرُ الله لك، أو لا يُدخِلُك الله الجنةَ. فقبَضَ أرواحَهما، فاجتمعَا عند ربِّ العالمين فقال لهذا المجتهدِ: أكنتَ بي عالمًا، أو كنت على ما في يَدِي قادرًا؟ وقال للمذنبِ: اذهب فادخُلِ الجنة برحمتِي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النارِ".

قال أبو هريرة: والذي نفسي بيدِه لتكلَّمَ بكلمةٍ أوبقَت دنياه وآخرتَه ([7]).

وفي رواية ابن المبارك: قال ضمضم: دخلتُ مسجدَ المدينة، فناداني شيخٌ، وقال: يا ابن أُمِّي! تعالَه، وما أعرِفُه، قال: لا تقولَنَّ لرجلٍ: والله لا يغفِرُ الله لك أبدًا، ولا يُدخِلُك الجنة أبدُا. قلت: ومن أنت يرحمُك الله؟ قال: أبو هريرة. قلت: فإن هذه الكلمةَ يقولُها أحدُنا لبعضِ أهلِه إذا غضِبَ، أو لزوجتِه، أو لخادِمه؟ قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وذكره.

فاحذر يا أخي أن تتكلم بكلمة تهلك بها، وتخسر بها آخرتك، وأمسك عليك لسانك، ولا تلقِ بنفسك في التهلكة وأنت لا تدري، فقد صحًّ عن أبي هريرة t، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: " «إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ، ما يتبَيَّنُ ما فيها، يهوِي بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ» " ([8]).

3- رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى: { {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} } [الحجرات: 2].

عن ابن أبي مُليكة رحمه اللله قال: كاد الخيِّرانِ أن يهلِكَا أبو بكر وعمر، لما قدِم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفدُ بني تميم، أشار أحدُهما بالأقرعِ بن حابِس التميمي الحنظلي أخي بني مُجَاشِع، وأشار الآخرُ بغيرِه، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردْتَ خِلافي، فقال عمر: ما أردت خلِافَك، فارتفعَت أصواتُهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلَت: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} } [الحجرات: 2] إلى قوله: { {عَظِيمٌ} } [الحجرات: 3]، قال ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير، فكان عمرُ بعدُ إذا حدَّث النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحديثٍ حدَّثه كأخِي السِّرَار لم يُسمِعْه حتى يستفِهمَه ([9]).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال لما نزلت هذه الآية: { {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} } [الحجرات: 2]إلى آخرِ الآية، جلسَ ثابت بن قيس في بيتِه، وقال: أنا من أهل النارِ، واحتبسَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ، فقال: "يا أبا عمرو، ما شأنُ ثابت؟ اشتَكى؟» قال سعد: إنه لجارِي، وما علمْتُ له بشكوَى.

قال: فأتاه سعد، فذكرَ له قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: «أُنزِلَتْ هذه الآيةُ، ولقد علمتُم أني من أرفَعِكم صوتًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهلِ النارِ، فذكرَ ذلك سعدٌ للنبيِّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهلِ الجنةِ"، فقل له: إنك لسْتَ من أهلِ النار، ولكن من أهلِ الجنةِ". قال: فكنَّا نراه يمشِي بين أظهُرِنا رجلٌ من أهلِ الجنةِ » ([10]).

قال العلماء: كان ثابتُ رضي الله عنه جَهِيرَ الصوتِ، وكان يرفعُ صوتَه، وكان خطيبَ الأنصارِ، ولذلك اشتدَّ حذَرُه أكثرَ من غيرِه.

واعلم يرحمك الله أنَّ من قدَّم قولَه وهواه على كلام رسول الله r فهو داخلٌ في هذا الوعيد، فهو وإن كان قد مات r فإن سنَّته باقيةٌ، وأمرُه واجب الامتثال، والله أعلم.

4- ترك صلاة العصر:

عن أبي المَلِيح رحمه الله قال: كنا مع بُرَيدة في غزوة في يومٍ ذي غَيْمٍ، فقال: بكِّروا بصلاةِ العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «من ترك صلاةَ العصرِ فقد حبِطَ عملُه» " ([11]).

وقد اختلف العلماء في معنى الحبوط هنا، وأوَّلوه بما سبق بيانه. ولا شكَّ أنَّ هذا وعيدٌ وزجرٌ شديدٌ؛ فكن على حذر يرحمك الله.

5- المنُّ:

قال الله تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} } [البقرة: 264].

فاحذر يا أخي المن؛ فقد ورد عن أبي ذر t، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يُكلِّمُهم الله يومَ القيامةِ، ولا ينظرُ إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ"، قال: فقرأها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مِرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسِروا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المُسبِلُ، والمنَّان، والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحلف الكاذبِ" ([13]).

6- انتهاك محارم الله في الخلوة:

عن ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلَمنَّ أقوامًا من أمتي يأتونَ يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تِهامَة، بِيضًا، فيجعلُها الله هباءً منثورًا "، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفهُم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلمُ، قال: "أمَا إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدتِكم، ويأخُذون من الليلِ كما تأخُذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خَلَوا بمحارمِ الله انتهَكوها" ([14]).

ويعارض هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه  قال: «سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ أمتي مُعافَى إلا المُجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعمَلَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يُصبِحُ وقد سترَه الله عليه، فيقول: يا فلانُ، عمِلْتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربُّه، ويُصبِح يكشِفُ سِتْرَ الله عنه» " ([15]).

قلت: لكن يزولُ الإشكال – والله أعلم – بحمل حديث ثوبان على من فعل ذلك استخفافًا بالله عزَّ وجلَّ، وهم المنافقون الذين يُظهِرون الإيمان والإسلام، ويبطنون الكفر والنفاق، وفيهم قول الله تعالى: { {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} } [النساء: 108] قالوا: وهذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم.

 

وللمقال بقية بعنوان :أسباب حبوط الأعمال الكفرية


([1]) أخرجه مسلم (2985).

([2]) صحيح: أخرجه أحمد (5/ 428).

([3]) إسناده حسن: أخرجه أحمد (5/ 134) والحاكم (4/ 311).

([4]) سنده حسن: أخرجه النسائي (3140).

([5]) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجة (252)، وأحمد (2/ 338)، والحاكم (1/ 85). وفي الباب عن ابن عمر، وكعب بن مالك، وحذيفة، وجابر، وأنس، وفي كل أسانيدها مقال.

([6]) أخرجه مسلم (2621).

([7]) صحيح: أخرجه أبو داود (4901)، وأحمد (2/ 323، 363)، وابن حبان (5712)، وابن المبارك في "الزهد والرقائق" (900).

([8]) أخرجه البخاري (6477)، ومسلم (2988).

([9]) أخرجه البخاري (7302)، وهو مرسل، لكنه وصله في (4847).

([10]) أخرجه البخاري (3613)، ومسلم (119).

([11]) أخرجه البخاري (553).

([13]) أخرجه مسلم (106).

([14]) ‏‏  إسناده حسن، وأعله بعض أهل العلم: أخرجه ابن ماجه (4245)، والروياني (651)، وأعلَّه بعضُ أهل العلم بتفرد عيسى بن يونس الرَّملي، وعقبة بن علقمة. قلت: عيسى مُتابَعٌ عند الروياني. قال شيخنا: والحديث في النفس منه شيء لتفرد الألهاني وعقبة به، ولا يحتمل تفرهما، لا سيما مع غرابة المتن. هذا محمول - لو صح - على نفاق الاعتقاد.

([15]) أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).