مهاجر من الجواء إلى الأرجنتين!
أحمد بن عبد المحسن العساف
اسمه الكامل علي بن عبدالله بن محمّد العسّاف، وتولّى والده إمارة عيون الجواء لمدة تزيد عن أربعين عامًا، نصفها تقريبًا قبل دخول الملك عبدالعزيز للرّياض، ولهذا الأمير وقفات تاريخيّة جديرة بالحفظ، ولأهميّتها ولما له من مكانة كتب الملك عبدالعزيز له وثيقة تثبيته على إمارة العيون دون منازع.
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
أحمد بن عبد المحسن العساف
@ahmalassaf
عاشت الجزيرة العربيّة، وإقليم نجد تحديدًا، ومنطقة القصيم بشكل أخصّ، عدّة قرون وهي تتصل بالعالم من خلال قوافل تجار العقيلات أهل الرّحلات الذين يغيبون ثمّ يعودون إلى ديارهم بعد حين، أو بواسطة من اختاروا الإقامة الطّويلة في الزّبير، وبغداد، والشّام، ومصر، والبحرين، والهند.
واشتهر أهل بريدة، وعيون الجواء، وعنيزة، وحائل، بأنّهم من أكثر السّائرين ضمن قوافل العقيلات، ويحفظ أكابرنا أسماء مئات الرّجال من عقيلات عيون الجواء الذين ينتمون إلى عوائل عديدة، ولأغلبهم مواقف وقصص، ومن أبرزها حكاية العم علي العسّاف، الذي هاجر إلى الأرجنتين في رحلة فريدة تواترت روايتها وأخبارها.
اسمه الكامل علي بن عبدالله بن محمّد العسّاف، وتولّى والده إمارة عيون الجواء لمدة تزيد عن أربعين عامًا، نصفها تقريبًا قبل دخول الملك عبدالعزيز للرّياض، ولهذا الأمير وقفات تاريخيّة جديرة بالحفظ، ولأهميّتها ولما له من مكانة كتب الملك عبدالعزيز له وثيقة تثبيته على إمارة العيون دون منازع.
كان العم علي من تجار الأبل في قوافل العقيلات المشهورة، ومعه ثلاث رعايا، تضم الواحدة منهنّ مئة بعير بأحمالها، وسافر باحثًا عن الكسب الحلال له ولغيره، بيد أنّ عام خروجه كان سنة جدب وقحط، مما أثّر على الإبل حتى بدا هزالها؛ وأنهكتها الرّحلة من القصيم عبورًا بالجوف ومرورًا بالعراق والشّام وفلسطين، حتى وصلت إلى بلبيس في شرق مصر التي تحتضن حينذاك أكبر سوق للإبل.
بعد وصوله إلى بلبيس بالقليل الصّالح من بضاعته، باعها مضطرًا بثمن زهيد لا يفي بما التزمه للتّجار ولا حتى بربع المبلغ، فضاقت عليه الدّنيا بما رحبت، وهجمت عليه الهموم من أقطار الأرض، فله ولأسرته من السّمعة والثّقة ما يوجب عليه الوفاء، فضلًا عن مقتضيات الدّيانة والمروءة.
فأشار عليه أحد رفاقه بالهجرة إلى بلاد الغربة؛ فثمّت بقاع مليئة بالخيرات، ولدى العقيلي علي العسّاف من الفطنة والحذق بالبيع والشّراء ما يساعده على اقتناص الفرص، وكانت الفكرة موضع ترحيب منه؛ لأنّه لا يستطيع العودة لنجد خالي اليدين، وليس من شيم الكرام الاستسلام العاجل.
ولذلك أعطى الأموال التي اجتمعت لديه من بيع ما بقي من الإبل في بلبيس لرجل من رعاة إبله، وطلب منه إيصالها لوالده الأمير؛ كي يدفعها لأصحابها، وهي تمثّل جزءًا من القيمة المتوافرة حينها، وحمّل النّاقل رسالة لوالده مفادها أنّه سيضرب في الأرض مبتغيًا فضل الله، ولن يعود إلّا ببياض الوجه.
ولم يتوان الأب الأمير بعد أن بلغته الرّسالة، فدفع الأموال لأهلها، ورهن مزرعته التّليل وهي أكبر مزرعة بعيون الجواء حينذاك؛ أملاً بعودة الابن المسافر للمجهول، وتسديد باقي حقوق النّاس. وبعد خمس سنواتٍ من الغياب، طلّق الأمير زوجتي ابنه بسماحة نفس، حتى لا يلحق الضّرر بالمرأتين من غياب لا يُعرف له أمد، وأصدر حكم الطّلاق الشّيخ عبدالرّحمن الرّاجح قاضي العيون ومرجعها الشّرعي، بناء على التّراضي بين الأمير وزوجتي نجله المهاجر.
ويروى عن العم أنّ السّفينة التي أقلّتهم لأمريكا الجنوبيّة، كانت مليئة بالمهاجرين العرب، وتقف بعرض البحر قبالة السّواحل، ولا تقترب من الموانئ؛ ثمّ تعترضها قوارب فيها موظفون يتفحصون وجوه الرّكاب وأجسامهم، ويختارون بعضهم، ويتركون البقيّة لبلد آخر.
وقفت السّفينة في محطّتها الأولى عند سواحل البرازيل، فنزل من على متنها بعض ركّابها الذين وقع عليهم انتقاء قوارب الفحص، ثمّ توقفت مرّة أخرى أمام بوينس آيرس، فكان نصيب العم أن تكون الأرجنتين وجهته دون اختيار منه؛ وإنّما بناء على فراسة رجال القوارب الفاحصة، فنزل في بلاد الفضّة، واستقر في مدينة الهواء العليل.
عاش أسبوعه الأوّل بمرارة شديدة، ومضت أيّامه كسنة كئيبة، حيث تعسّر عليه إيجاد مكان يؤويه، وأكل مناسب يقويه، ولسان مفهوم يحاكيه، وكانت الوجوه غريبة، والّلغات مبهمة، وهو ليس بعاجز عن التّكيف؛ فمسيرة العقيلات تؤكد نجاحهم في الاندماج الإيجابي بمجرّد انكسار حاجز الّلغة، وهو ما أثبته المهاجر العيوني لاحقًا.
ثمّ حانت لحظة سعيدة، حين سمع تاجرًا لبنانيًا، يرفع صوته معاتبًا عاملًا عنده بلسان عربي مبين، فطار الفتى العربي من الفرح بهذا العتاب الذي يطرِب كما لو كان نغمة غناء بديع، وحكى قصّته للتّاجر المهاجر، فطمأنه وقال: أنا أتيت لهذا البلد معدمًا، والآن هذا المتجر الكبير ملكي، وعندي خير وفير!
وأقترح الّلبناني على العم أن يبدأ تجارته بدفع عربة تحتوي على بضاعة من الحلويات والمكسّرات، وتكون الأسعار مكتوبة عليها، مع تفتيح آذانه لالتقاط لغة القوم، وأخبره بأنّ أهل البلد مسالمين، ويدفعون قيمة ما يأخذونه كاملة دون مخادعة أو مفاصلة، وما عليه سوى الصّبر والاجتهاد.
وبعد فترة استيقن الّلبناني من براعة الوافد النّجدي، فنصحه بفتح متجر يكون مقرًا له، وبذلك امتلك العم دكانه الأوّل، ثمّ الثّاني، واكتسب سمعة حسنة لصدقه وأمانته، واحتضن التّاجر القصيمي قادمًا آخر من بريدة أو حائل، وتشاركا في متجر جديد، وصداقة متينة.
أمضى الرّحالة علي العسّاف في الأرجنتين أعوامًا تزيد عن العشرة وتقصر عن العشرين، حيث أنّه هاجر تقريبًا بين عامي 1312-1315=1895-1898م، ورجع تقريبًا بين عامي 1327-1331=1910-1914م، حاملًا معه الهدايا، فضلًا عن ذهب كثير أنهى به رهن مزرعة والده، وسدّد جميع الدّيون الواجبة عليه، وتزوج هو وأخوه صالح، وأنجب بنين وبنات، لم يعمّر منهم سوى ابنته شمعة، التي توفيت قبل عقد من الزّمان، ولها ذريّة باقية.
ويبدو أنّ خبر هجرته متداول بين جماعته ومجاوريهم، فحين عاد من بورسعيد إلى غزّة بالقطار، وكان يرتدي ملابس البلاد التي قدم منها، وجد رجلين من بيئته الأصليّة، فشرع يسألهما عن نجد، واقترب أكثر من القصيم، ثمّ استخبرهما عن بلدته عيون الجواء، ومزارعها، وأهلها، سؤال العارف البصير، حتى قال له أحدهما: هل أنت علي العسّاف؟
وممّا يحمد للعم، تشجيعه أهالي بلدته في عيون الجواء، على إرسال أولادهم لكتّاب الجامع؛ ليدرسوا عند الشّيخ عبدالله بن سايح القرآن والّلغة والحساب والكتابة، بدلًا من انشغالهم بالرّعي أو الزّراعة أو البناء، وتعهّد بدفع ريال فرانسي شهريًا عن كلّ طفل ينتظم في الدّراسة، ويثبت حرصه على العلم.
لم ينس العم رفيق غربته من أهل بريدة أو حائل، وكانا يتبادلان الزّيارات، ويتحدّثان معًا بالّلغة الإسبانيّة، ويحتسيان شرابًا ساخنًا يشبه النّعناع اسمه المتى، وقد يستخدمان النّارجيلة بدلًا من الدّخان، ويروى أنّهما كانا في مهجرهما يلجؤون للكافور كي يحميهم من الافتتان ببنات الأرجنتين، وغالبيتهنّ من عرق أوروبي جميل فاتن.
ويرجّح أنّ سبب عودته من الأرجنتين يكمن في عزمه على سداد ديونه، وشوقه لأهله، وحنينه لدياره، إضافة إلى الابتعاد عن المظاهرات الغاضبة التي اجتاحت تلك البلاد، فكان من السّلامة تصفية الأعمال والنّجاة بالنّفس والمال، ليكون بذلك أوّل مهاجر معروف من العقيلات إلى أمريكا الّلاتينية، وربّما يكون أوّل نجدي يلقي عصا التّرحال في الأمريكيتين.
وأزمع العودة إلى مهجره زائرًا، بيد أنّ كبر السّن، ومسؤوليّة الأولاد، وفقدان البصر، منعته مجتمعة من تحقيق رغبته إلى أن توفي بين عامي 1358-1360=1940-1942م، ولم يبق أحد اليوم ممن وعى عليه إلّا ابنة أخيه صالح أطال الله على النّعماء بقاءها، وجميع ما ورد أعلاه سمعته من العم الشّيخ محمّد بن صالح العبدالله العسّاف، وهو ابن شقيق الرّحالة، ويروي تفاصيل الهجرة عن آبائه وأعمامه وأبنائهم بسند متصل وثيق رحمة الله على الجميع من الأموات والأحياء.
وبعد، فهذه حكاية تاجر عقيلي ابن أمير عريق لبلدته، وفيها من الهمّة، والوفاء، والنّباهة، والخلق الكريم، والحرص على العلم والتّعليم، ونفع البلد وأهله، والحفاظ على الثّقافة والموروث، والانفتاح المعتدل، ما يحسن بنا تقديمه للأجيال، وحفظه للتّاريخ، فنحن أمّة فيها الإرادة، وصدق القصد، والجديّة، ورجال على قدر كبير من حمل المسؤوليّة وأدائها.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض