أزمة مصر الاقتصادية بعد الثورة

ملفات متنوعة

هناك مشكلةٌ هامَّة تمثِّل حجر زاوية في نجاح الثورة المصريَّة في
بناء مصر الجديدة، وهي مشكلة التنمية الاقتصاديَّة، والأزمة
الاقتصاديَّة المصريَّة، ولها عدَّة جوانب..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -



هناك مشكلةٌ هامَّة تمثِّل حجر زاوية في نجاح الثورة المصريَّة في بناء مصر الجديدة، وهي مشكلة التنمية الاقتصاديَّة، والأزمة الاقتصاديَّة المصريَّة، ولها عدَّة جوانب:

أولاً: أزمَة الفِكر التنموي لدَى القيادة السياسيَّة:

وذلك له مظاهِر عديدة، منها: التركيز في مجال التنمية على اقتصاد الخِدْمات، الذي عادةً ما يكون عُرضةً لمخاطر التقلُّبات السياسية، كما أنه لا يوفِّر فرصَ عملٍ كثيفة، وبصفة عامة فهو لا يَبني إلا اقتِصادًا هشًّا، وكذلك الاعتماد على أنماط اقتصاديَّة غربيَّة ثبت فشلُها في موطنها وسبَّبت الأزمات الاقتصادية العالمية؛ مثل: الاعتماد على المذهَب الاقتصادي الرأسمالي تارةً والاشتراكي تارةً، والخلط بينهما تارةً أخرى، بما في ذلك النسق الرِّبوي في التعامُلات المصرفيَّة وما يرتبط بها مِن معاملات في مجالات البَيْع والشِّراء والبورْصة، ومِن مظاهر أزْمَة الفِكر الاقتصادي لدَى النُّخبة أيضًا عدم اختيار الفنِّ الإنتاجي المناسِب للبيئة المصريَّة، وما يعتريها مِن مشكلات وأزمات، وبصِفة عامَّة، فهناك غياب لرُوح الإبداع والابتكار في مجال التفكير الاقتصادي، وفي سائر الخيارات الاقتصاديَّة التي يتمُّ تبنِّيها، وبصفة عامَّة توجد تبعيةٌ فِكريَّة للفكر الاقتصادي الأُوروبي والأمريكي.



ثانيًا: سوء إدارة الموارد الاقتصادية:

نحن دائمًا محتاجون لعدم إنفاق أيِّ جُنيه إلا في موضعه المناسِب، وإلاَّ لم يكن لنا وصفٌ سِوى السفاهة والحماقة، هذا إذا كنَّا دولة غنيَّة، فما بالنا ونحن دولة فقيرة، ومَدِينة، ونِسبة الفقر زادتْ على 40 %؟! بل بلغت بها بعض التقديرات 70 %، وبلغ عدد مَن هم تحت خط الفقر 20 %.


والمشكلةُ أنَّنا نلاحِظ إسرافًا بسفاهة مُنقطِعة النظير في ميزانية الدولة، فعلَى سبيل المثال:

لدينا نحو 30 وزارة؛ أي: ضِعف عدد الوزارات الأمريكيَّة، رغم أنَّ عدد الأمريكيين 306 ملايين، ونحن 80 مليونًا، وكل وزير لديه عددٌ مِن السيارات الفخْمة، بينما زعيم المعارَضة بمجلس العموم البريطاني يذهَب إلى المجلس على درَّاجة عادية!


وبلغتْ مُوازنة وزارة الثقافة 3.2 مليار جنيه، ووصلتْ نفقات قطاعات المتاحِف بالمجلس الأعلى للثقافة إلى 723 مليون جنيه، ومكتبة الإسكندرية 89 مليونًا، والبيت الفني للموسيقا ودار الأوبرا 61 مليون جنيه، هذا كله في حين لم يتعدَّ الإنفاق على البحْث العِلمي والتكنولوجيا 900 مليون جنيه!


وبلغ حجم مشتريات الحُكومة على سفريات وتدريب ومكاتب تمثيل 22 مليار جنيه.


بالإضافة إلى 14 مليارًا على سيَّارات انتقال السادة المسؤولين، وكذلك 14 مليارًا و28 مليون جنيه أنفقتها الحكومةُ على وقود وزيوت السيَّارات الحكوميَّة!


أمَّا تكاليف الانتقالات العامَّة، فبلغت 9.1 مليار جنيه.


وبلغت نفقات الحكومة (بند المشتريات من الخارج) مليارًا و534 مليون دولار في عام 2009 - 2010.


وتُنفق الدولة على رواتبِ مستشاري الوزراء 2 مليار جنيه سنويًّا، ووجهت لجنة القوى العاملة بمجلس الشَّعب نهاية عام 1999 اتهامًا صريحًا للحكومة بإهدار ملياري جنيه على وظائف ديكورية.


وفي وزارة المالية وفي ظلِّ وجود عجز سنوي في ميزانية الدولة كنَّا نجد رواتبَ فلكيَّةً يتقاضاها مستشارو الوزير ومكتب السكرتارية الخاصَّة به، حيث تقاضى مساعد أول وزير المالية ربع مليون جنيه شهريًّا، ومستشار الوزير لشؤون الضرائب تَقاضى شهريًّا 100 ألف جنيه.


وهذه كلها مجرد أمثلة على الإسراف السفيه في بنود الميزانية العامَّة المصريَّة، وعلى كلِّ حال فالمطلوب التقشُّف في المجالات المظهريَّة والمجالات التي ليس لها عائدٌ فِعلي وحقيقي على اقتصاد البلاد، مع منْع الفساد الذي عادةً ما استهلك الاقتصاد المصري واستنزفه، مع زيادة الإنفاق في مجالات الاستثمار بشقَّيه الاقتصادي والبشَري (المشروعات الجديدة المنتِجة كثيفة العِمالة - البحْث العِلمي - التعليم - الصحَّة - مكافحة الفقر).


ثالثًا: سوء توزيع الموارد الاقتصاديَّة:

تحتاج مصرُ لمعالجة سوء التوزيع، ليس فقط مِن أجْل تحقيق العدالة الاجتماعية الغائبة، ولكن أيضًا بهدَف القضاء على الفقْر، الذي بدوره يؤدِّي لدوران عجلة التنمية؛ لأنَّه ثبت علميًّا أن زيادة دخول الطبقة الفقيرة والوُسطى يؤدِّي لتنشيط الطلب، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاج، ومِن ثَم زيادة فُرَص العمل، وبالتالي تنشيط مزيد مِن الطلب وهلم جرًّا؛ لأن هاتين الطبقتين لديهما قدرٌ كبير مِن الحاجات التي لم يتمَّ إشباعها بعدُ، وبالتالي فزيادة دخلهما يؤدي إلى زيادة استهلاكهما، بعكس الطبقات العُليا التي كان النِّظام السابق يحابيها، فكلُّ حاجاتها قد تم إشباعها، فمهما زادتْ دخولها فإنَّ استهلاكها ليس قابلاً للزيادة، بل تذهب الزيادة للاكتناز في بنوك أوروبا وأمريكا، ومِن ثَم فهي تضعِف الاقتصاد المصري، وتدعم الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، ولا شكَّ أنَّ أهم الخُطوات اللازمة في هذا المجال هي سرعةُ تحديد حدٍّ أدنى وأقصى للأجور بشكل عادِل ودون أدنى محاباة.


ولا غِنى في هذا المجال عن تتبُّع الفساد ومَن أُثروا بالفساد، وإعادة ما نهبوه لملكيَّة الدولة مرةً أخرى لتوظيفه في عملية التنمية بما في ذلك أصولُ الدولة والقطاع العام التي تَمَّ خصخصتُها بالفساد وبأسعار بخْسة، مع منْع تَكْرار أي عمليات فساد أخرى في المستقبل.


وليس بعيدًا عن هذا أنه يتحتَّم الكفُّ عن تزويد المشروعات الخاصَّة بالطاقة والمواد المدعومة، بينما يقومُ أصحابها ببيع منتجاتهم السلعيَّة أو الخِدمية بأسعار السوق حسبَ العَرْض والطلب؛ لأنَّ في ذلك إهدارًا للأموال المخصَّصة للدعم.


رابعًا: تدنِّي الموارد الاقتصاديَّة الطبيعيَّة:

وهو مِن أبرز جوانب الأزمة الاقتصاديَّة المصريَّة، ولا شكَّ أن تخطِّي هذه العقبة لا بدَّ أن يعتمد على العديدِ مِن الخُطوات التي تعتمد على الابتكار والخيال المبدِع، ولعلَّ أبرزها:

1- التوسُّع لأقصى مدًى في مجال إنتاج الطاقة المتجدَّدة، خاصة مِن مصادر الشمس (التي لا تغيب عن بلادنا طوالَ العام)، والرياح (المتوفِّرة بمناطق عديدة في مصر)، وأمواج البحار (حيث تطلُّ مصر على آلاف الكيلومترات مِن الشواطئ)، كما يَنبغي الاهتمام بإنتاج البيوجاز على نطاق واسع، فكلها مصادر طبيعيَّة مجَّانية وغير متناهية.


2- اعتماد الإنتاج الزراعي المعدل وراثيًّا خاصَّة ما كان منه تَمَّ عبر أبحاث مصريَّة مبدعة، وبعضها يتيح إنتاج سلع زِراعية هامة عبرَ الري بماءِ البحر؛ مِثل: الأرز والقمح والشعير، وربما الذرة، فضلاً عن أنَّ أبواب البحث مفتوحة لإضافة المزيد مِن أنواع المحاصيل.


3- تقديم أقْصى حوافِز ممكِنة لدفْع عملية التنمية في مجالات الثروة الحيوانيَّة والسمكيَّة والصناعات المرتبطة بها، ليس فقط لحلِّ أزمة النقْص في هذا المجال وتوفير الأموال المستنزَفة في استيراد الناقِص في هذا المجال، ولكن أيضًا وصولاً لتحقيق فائض للتصدير، وهذا ليس صعبًا في حال تَمَّ تنمية الإنتاج الزِّراعي على النحو المذكور آنفًا، مع تشجيع عمليات التصنيع المرتبِطة بهذا المجال، خاصَّة تصنيع الأعلاف، بجانب التكامُل اقتصاديًّا مع السودان.


4- التركيز على تَصنيع كلِّ متطلبات الإنتاج في المصانع المصريَّة؛ لأنَّ ذلك يحقق زيادة فرص العمل، ويوفِّر العُملة الصعبة التي تستخدم في استيراد المعدَّات وصيانتها وقِطْع غيارها، كما أنه يجعل الأموال المستخدمة في تنمية أيِّ مجال يعاد تدويرها واستثمارها داخلَ الاقتصاد المصري، ممَّا يوسِّع اقتصادنا ويقويه، ويجعل ثمارَ الأموال المخصَّصة للتنمية الاقتصادية كلها يُعاد ضخها لصالح التنمية المصرية مرةً أخرى، لا سيَّما أنَّ جُل - إن لم يكن كل - المعدَّات التي سيتمُّ استخدامها في التنمية المطلوبة يُمكن بسهولة تصنيعها في المصانِع المصريَّة.


وما ذكرناه هنا مجرَّد أمثلة على الإبداع والابتكار، لكن في الأبحاث المصريَّة المركونة في الأدراج الكثيرُ مِن الحلول العلميَّة الخلاَّقة التي تحلُّ الكثير من مشكلاتنا التنموية، سواء على مستوى الزِّراعة أو الصناعة أو الطاقة أو المياه.

ومع ذلك كله لا بدَّ مِن اعتماد سياسة تكامُل اقتِصادي مع السودان بشكلٍ أساسي وحتْمي وعاجل؛ وذلك وصولاً لتحقيق اتحاد اقتصادي بيْن مصر والسودان؛ لأنَّ ذلك لا محيدَ عنه لفائدة القطرين، مع عدم إغفالِ القيام بسعْي مشابه مع كافَّة الدول العربيَّة والإفريقيَّة، خاصَّة ليبيا ودُول المغرب العربي.


تلك هِي أهمُّ التحديات والخيارات الاقتصاديَّة في مصر بعدَ نجاح ثورتها في إزاحة الديكتاتور، وفي مرحلة يسعَى فيها الثوَّار لبناء مصر الجديدة.
 

المصدر: عبد المنعم منيب - موقع الألوكة