من روائع الحكم المقال الخامس عشر
عبد الفتاح آدم المقدشي
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
بسم الله الرحمن الرحيم
من فوائد استخدام العقل بالحكمة كالأمور الآتية:-
1- الإقدام إلى الخير بالحكمة وفي سياسة كالأمر بالمعروف لمن يهوى المنكرات وزيَّن له الشيطان وأملى له
2- الاحجام عن الشر بالحكمة وفي سياسة كالنهي عن المنكر لمن يُتَّقي من شره باستخدام مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى { {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } } [ التغابن: 16 ] فقد قرن الله – كما ترى - بالأمر بالسمع والطاعة وتقوى الله بحسب الاستطاعة حتى لا يتعلَّل أحدٌ عن السمع والطاعة بحجَّة عدم الاستطاعة والعجز فيجب على كل مؤمنٍ تقيٍّ أن يأتي بكل الأوامر بحسب استطاعته.
3- التصريح في موطن التصريح والتعريض في موطن التعريض كالتصريح في أمور العقائد والتوحيد والتعريض من خطبة النساء لمن مات زوجها وقس على ذلك وإنما الحمق ضد ذلك ولكن بين الفريقين مائعين, وقد يكون هذا السبب إفراط في توجيه الحكمة كالمجاملات ونحوها وهو باطل, وقد يكون فيه نوع من التساهل لحب المادة فقط أي فيه عدم الاهتمام أصلاً بأمور الدين, وقد يكون خوف مع عدم الإكراه المحقَّق فيستخدم المُمَيِّع التقيَّة في غير محلِّها وإنما هو عين النِّفاق, إذ ضرر النفاق يعود على صاحبه إن عاجلا أو آجلا.
4- حسن معالجة المشاكل بالحكمة إذا تورَّط فيها وإقناع الناس بدون إيذاء وحسن التحفظ منها سالماً غير ظالم ولا ملام بل مكرَّم كريم وإنما الكريم إذا أحب أكرم وإذا كره لم يظلم
5- الاجتناب عن الأعداء وأهل الشر والفساد, والحذر من الأصدقاء لئلا يوقعوك فيما لا يحمد عقباه
6- الإكثار من الأصدقاء والتقليل من الأعداء مرة بالدعوة والنصيحة ومرة بتأليفهم بالأموال , وهذه الحكمة تعم على جميع الناس وعلى مستوى العالم واجعل نظرك على جميع أصقاع العالم كله ووسِّع أفقك لا تقتصر بحدود ضيِّقة معيَّنة أي قلِّل أعداء الإسلام الكفرة الفجرة بكثرة دعوتهم إلى الله وإدخالهم في الإسلام مستخدماً بشتى الوسائل كالانترنت والفضائات والسفر إلى بلادهم لمن تسلَّح طبعاً بالعلم والإيمان الراسخ ناوياً الدعوة إلى الله وغير ذلك من الوسائل المعينة على ذلك
7- احترام أهل الكرم وعدم الاهتمام بأهل اللؤم فإذا أكرمت الكريم أكرمك أما إذا أكرمت اللئيم فإنه سيهينك
8- عامل الناس بما تحب أن يعاملوك وقل لهم بما تحب أن يقولوا لك وأحسن إليهم كما تحب أن يحسنوا إليك إذا احتجت وقرِّبهم وأكرمهم كما تحب أن يقرِّبوك ويكرموك
9- وإياك ما يُعتذر منه في أمور الدنيا والآخرة, فالاعتذار وإن كان قد يصلح ما أفسدته لكنه باستمرارك به يفسد عليك توبتك النصوح ويُفقد الثقة بك والمصداقية من قبل محبِّيك
10- وإياك عن التناقض والاختلاف في الأقوال والأعمال في الأمور كلها فإنه نفاق إلا أن ترجع إلى الحق إذا ظهر لك فالرجوع إلى الحق خير من التمادي بالباطل أو الرجوع عن يمين في أمرٍ مرجوحٍ فتحلَّل منها وتأتي بالأمر الراجح الطيب.
11- الاهتمام بالشيء والشعور بأنك تحتاج إليه باستمرارٍ والحرص عليه يجعلك تحفظه, والصبر يهوِّن عليك المشقة التي تلحقك منه في تحصيله, كما أن كثرة التكرار تجعلك تحفظ تلقائياً وبدون عناء,, والحذر والانتباه الشديد والخوف الشديد عن المخاطر التي تترتب عن الأشياء السيئة وأعظمها الشرك وأهله يجعلك تتجنب عنها وتنجوا من شرِّها بإذن الله, وينبغي أن يكون كل ذلك المذكور أعداءك كما قال الخليل عليه السلام { {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} } [ الشعراء: 77 ]
12- أنظر وتفكَّر في أمورك كلها وما يترتب منها مرة تلو مرة بل ادرسها جيِّداً قبل أن تفعل ما تحب أو تقول لئلا تندم حين لا ينفعه الندم, وانظر أيضاً استطاعتك على هذا الشيء المعيَّن ثم عندما تحاول أن تخطوا خطوة لابد أن تكون كثير الحذر لئلا تنزلق.
13- حافظ على أسرارك بقوَّة وإن لم تستطع فالذي ستضع عنده الأسرار أولى أن لا يستطيع حفظ سرك, خصوصاً ينبغي أن لا تثق ولا تضع أسرارك عند من جرَّبته لا يستطيع أن يحافظ عليها كالنساء مثلاً لكونهن قليل الحزم. والذي يبوح بأسراره إلى من يذيعها بليد يشبه المجنون , كما أن الوقح قليل الأدب يشبه المجنون كذلك.
14- أرجح الناس عقلاً الذي يحتاط للأخطار قبل وقوعها أي يختزن أشياء في حالات الطوارئ إذا وقعت, والذي يتأكد من الاحتمالات و الاشكاليات والمشتبهات فيتثبت منها ويحذر منها لئلا تفسد عليه حياته وتزيل عنه الاطمئنان.
15- ينبغي ان تعيد نظراتك تلو نظراتك على المشورة التي تأتي من الآخرين والتي تبدوا في أول برَّاقة جميلة أكثر مما تعيد نظراتك على أفكارك الشخصية لكونك أنصح لنفسك من غيرك .
وأيضا من الحكم والعقل الذي استفدته من خلال تجاربي في الحياة ما يأتي:-
1- عدم الاستعجال في الأمور كلها سواء كان ذلك قولاً أو فعلاً أو نيَّة خصوصاً عند القرارات
2- المشاورة مع الخبراء والعقلاء مع صلاة الاستخارة
3- اتخاذ القرار الحاسم فيمن رأيته أنه لا تنفع مصاحبته كنقصٍ في الدِّين أو التحلَّي بصفات النفاق وغيرها من العلل
4- التعامل مع الناس بالحكمة التي هي بين التشديد والتساهل وقد بيَّنت بعض المسائل في ذلك الموضوع رسالة لطيفة غير منشورة أسميتها " الحكمة بين التشديد والتساهل " يسَّر الله نشرها.
5- أداء الحقوق والحفاظ على الواجبات بل أداء التطوعات والنوافل, لأن الله يحفظ من حفظه لحديث "احفظ الله يحفظك"
6- الاستعانة بالله والتوكل والدعاء
7- التخلق بالأخلاق الطيِّبة ونفع الناس والإحسان إليهم
8- - الغيرة والغضب فيمن يتدخل في الأمور الخاصة أو يتعسف في حقوق الآخرين لتضييعها, فإذا كان التعسف في حقوقك الشخصية لأجل إلحاق الصرر بالآخرين لا يجوز فكيف بمن يتعسَّف في حقوق الآخرين لتضييعها, قال الشافعي : من استغضب ولم يغضب فهو حمار
9- من أحسن ما تنجوا به من مساوئ العادات والفتن أن لا تقترب منها وأن تفر منها فرارك من الأسد مع القرار الحازم, وإلا سيكون الخلاص صعبا جدا , ولذلك قال تعالى { { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} } [ الإسراء: 32 ] وذلك لعظم الفتنة التي فيها وفي الحديث " السعيد من جُنِّب الفتن ".
10- التفكر جداً في تقدير المصالح والمفاسد والتقييم في معاملات الناس كالآتي:-
أ- قد يكون التقدير خاطئا بسبب عدم دراسته أصلاً أو عدم دراسته جيِّداً فلابد من الدراسة قبل كل شيء
ب- قد يكون التقدير في معاملة الشخص أنه لا يصلح ولكن لابد أن يكون القرار حاسماً في مدة وجيزة, لأنه إذا كانت المصيبة قليلة اليوم قد تتفاقم في المستقبل وتكون أعظم وأعظم
ج- قد يكون التقدير أنه ينفع ولكن لابد أن يكون قابلاً للتربية والتوجيه
ه- حد الفاصل بين هذه الأمور هي أن تفهم أن يكون الشخص ديِّن وخلوق فاضل, وأعني الخلق الفاضل تقوى الله والاجتناب من صفات المنافقين أي أن يكون مخلصاً لله في أموره كلها, أما إذا صار كالزنديق الذي لا خير فيه ولا عنده تقوى من الله ولو وُعظ ونُصح لا يقبل فإنه لا فائدة فيه أبداً.
قال شيخ عبد الرحمن حسن بن محمد عبد الوهاب " ومن ادَّعى ما ليس فيه كذّبته شواهد الامتحان" وقال " والناس إنما يتميَّزون بالأعمال لا بالأقوال, فرب ناطق بالحق وهو لا يحبه ولا يقبل أهله,بل ربما نطق بالحق وهو لايعرف حقيقة ما يقول
"
{ أنظر عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين ص 194 ط:مكتبة الطرفين}
و- من حسن تقدير الأمور ورجاحة العقل والحصافة أن لا تتصور شيئاً صعبا سهلا ولا شيئا سهلا صعباً حتى لا تقع في أخطاء فمثلا إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بالابن العليم ما اكتفى بذلك بل علم أن الملائكة لم يُرسلوا ليبشروا بابنه هذا فقط بل فطن أن الأمر الذي أرسلوا لأجله ليس بهين ولذلك سألهم وقال { {قَاْلَ فَمَاْ خَطْبُكُمْ أَيُهَا الْمُرْسَلُوْنَ} }[الحجر: ]
ومن ذلك التقييم الصحيح أبي دجانة لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تثبت في الأمر وأسرع إليها غيره , وأعطاه الرسول لتقييمه الصحيح مع أنه كان رجلا شجاعا , ففي " الروض الأنف, ص:250 "وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ بِحَقّهِ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ رِجَالٌ فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ حَتّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالَ وَمَا حَقّهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَنْ تَشْرَبَ بِهِ الْعَدُوّ حَتّى يَنْحَنِي قَالَ أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ بِحَقّهِ فَأَعْطَاهُ إيّاهُ .
وأيضا لابد من حسن موازنة المصالح والمفاسد , ويشترط لأخذ المصلحة الراجحة أن لا يترتب عنها إقرار حرام أو ترك واجب أو كفر أو نفاق أو غيره, ومع هذا لابد من ترك المفسدة الراجحة ولو كان فيها مصالح دنيوية عاجلة إن كانت تسبب إقرار حرام أو ترك واجب أو كفر أو نفاق أو غيره, بالإضافة إلى ذلك كله لابد أن يستطيع الفطن اختيار شر الشرين بدفع أسوءهما ويختار خير الخيرين بجلب الأصلح والأخير منهما.
ومن ذلك أيضا موازنة الخير بالشر ليعرف ما هو الخير أكثر وأدق, وذلك كموازنة بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وكيف علوم الدينية تهدي إلى أحسن الخير وأقومه وكيف تهدي الجاهلية بجهلها إلى أشر الشرور, لأنه يقال وبضده تتميز الأشياء, ويروى عن عمر أنه قال, " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلة"
وروى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحاً فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْماً فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ
ه- العاقل الحكيم هو الذي لا يتجمد أمام ما يقبل الاجتهاد ونظر المصالح المرسلة وغيره بله عن الغلو والجفاء فيما ينبغي فيه التأني والتريث والتيسير , ولقد جاءت السنة بالحضِّ على التيسر وعدم التعسير والتبشير وعدم التنفير والتطاوع وعدم الاختلاف .
ولقد عقد ابن القيم فصلاً رائعًا في تغيٌّر الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال في مقدمته: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خليقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها، وهى نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون (إعلام الموقعين: 3/14)
قلت:- الكاتب – هذا الكلام النفيس من هذا الإمام الخبير في الشريعة نرى فيه أنه أتى بقواعد مهمة في كلمات موجزة لنفهم مقاصد الشريعة ولو تغيَّرت الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد فإن هذه المقاصد ثابتة وراسخة كرسوخ الجبال الرواسي الشامخات وهي في قوله " فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها،"
إذاً, جاء هنا بهذه الكلمات وهي : الحكمة ومصالح العباد والعدل والرحمة , وأرى كل الفرق المنحرفة في كل الأزمنة جانبوا هذه الصفات ولم ينظروا بعينٍ ثاقبة هذه المقاصد في الشريعة فسبَّبوا لأنفسهم وللمسلمين الضيق والشدة والتكليف ما لا يطاق مع المشقة لعظيمة لتنطعهم في الدين ورغبتهم عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدءين المهديين والصحابة والسلف الصالح, والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقير إلى رحمة ربه وعفوه
عبد الفتاح آدم المقدشي