مظاهر العلمانية قي بلاد المسلمين:المقال الرابع
ملفات متنوعة
ففي تركيا - التي لم تحتل احتلالاً مباشراً - بلغ التأثير ذروته في الردة العقائدية والفكرية العنيفة التي انتهجها أتاتورك لطمس الإسلام بيد من حديد
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -
الرابعة: العلمانية في التربية والثقافة
قبل أن يصطدم الغرب المتحضر بالشرق المتخلف كانت التربية في الأخيرة متأخرة أسلوباً وموضوعاً، وكانت الثقافة جامدة ومحدودة.
كان نصيب الأمة الإسلامية من المعرفة ينحصر في بقايا التراث الفكري الذي دونه علماء الكلام والفقه واللغة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية تلك البقايا التي تسمى "الكتب الصفراء " أو الثقافة التقليدية، وفي أحسن الأحوال "الثقافة الأصلية " - كما في بلاد المغرب -.
......ولنأخذ شاهداً قريباً لذلك من الأزهر الذي صبت عليه اللعنات لجموده وتخلفه.
كان الأزهر منذ تأسيسه يدرس في حلقاته المكتظة الفلك والجبر والهندسة والطب كما يدرس الفقه والنحو والحديث سواء بسواء بلا حرج ولا غضاضة.
وظل كذلك إلى عصر ليس ببعيد، فها هو ذا الجبرتي يورد في تاريخه أسماء كثيرين ممن نبغوا في هذه العلوم بالنسبة لعصرهم - منهم والده - وإن كان مستواهم متخلفاً بالنسبة لما هو عليه حال معاصريهم في الغرب، ذلك أن هؤلاء يمثلون الدفعات الأخيرة لحضارة منهارة، في حين يمثل أولئك - الغربيون - طلائع متقدمة لحضارة فتية. ومع ذبول الحضارة الإسلامية التدريجي تقلص ميدان العلم ليقتصر على العلوم الضرورية التي لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يحيا بغيرها، وأهملت العلوم الأخرى لا تحريماً لها ولكن عجزاً وتهاوناً يميلها الواقع المنهار من كل ناحية.
وفي فترة الركود العلمي تلك ولدت أجيال بررت ذلك العجز والتهاون بصنوف المعاذير ثم استساغت الانغلاق وفسرت الدين نفسه تفسيراً ضيقاً وحددت علومه تحديداً نابعاً من واقعها المظلم لا من حقيقة الدين وجوهره.
......وحدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين غريباً خاصاً بالكفار.
من هذا الخطأ التاريخي تقريباً نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي :تعليم ديني ضيق محدود، وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها.
وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر، إلا أنه خشي معارضة الأزهريين، فقام على الفور بإنشاء نظامه التعليمي الحديث، وهكذا انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث (3) "
ولما كان اللقاء بين شيخ الأزهر "وجومار" (4) مستحيلاً فقد كان لا بد من الصراع بين أتباع وثقافة كل منهما، ورأى أبناء جومار أن القضاء على الأزهر يكون ببقائه جامداً معزولاً عن الحياة ومتغيراتها.
استصدروا من الخديوى إسماعيل سنة 1872 "القانون الخاص بتنظيم الأزهر وإصلاحه "وتنص فقرة ب منه على :
"تحديد الدراسات التي تعطى بالأزهر بإحدى عشرة مادة هي :الفقه وأصول الدين والتوحيد والحديث والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق "
ووافق ذلك في نفوس علماء الأزهر، وبذلك قطع الطريق أمام وعي ذاتي لإصلاح الأزهر حقيقة.
أما المدارس الحديثة التي أنشأها محمد علي وأولاده فقد كانت مجالاتها أرحب وفرصها أوسع، وكانت البعثات إلى الخارج قائمة على قدم وساق.
والناحية الأشد خطورة هي الوسائل التي ينتهجها كلا النظامين التعليميين : النظام الديني "كما سمي " يقوم في الكتاتيب المتفرقة في القرى والأمصار للمرحلة الابتدائية، والجامع الأزهر للمرحلة العليا.
والكتاتيب يدرس فيها "فقهاء" يجتمع حولهم الطلبة في مظاهر ريفية يحملون الألواح القديمة والمصاحف، والفقيه يتوسطهم بعمامته وفي يده عصا طويلة، ويقوم بتلقينهم بطريقة تغاير روح التربية الإسلامية المأثورة التي كانت في عصرها أرقى أساليب التربية العالية.
يتحدث "جب "عن شيء من ذلك قائلاً :"وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا".
ويذكر أن منها "مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العالم الفذ رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) وهو تلميذ جومار البار.
فالاستعمار -كما قال أحد شعراء المسلمين في الهند - أذكى من فرعون الذي استخدم سياسة قتل الأولاد، ولم يفتح لهم مدارس وكليات تقتلهم من حيث لا يشعرون كما فعل المستعمرون.
فقد افتتحوا مدارس غربية قلباً وقالباً في المراكز الثقافية الكبرى للعالم الإسلامي ورسموا المخططات لاستئصال التعليم الأصلي.
من هذه المدارس الكليات التبشيرية التي أنشئت في لاهور وبيروت واستنبول والقاهرة وغيرها،عدا المدارس الأقل شأناً التي انتشرت في الهند وبلاد الشام ومصر وبصفة أظهر في بلاد المغرب.
ومما لا شك فيه أن هذه المدارس كان لها أعظم الأثر في توجيه النهضة الفكرية وجهة لا دينية وتوسيع الهوة بين التعليم الديني واللاديني كما شجع الاستعمار واحتضن الحركات الفكرية والأدبية التي قام بها النصارى - لا سيما الشاميون - حيث كانت جمعياتهم وصحفهم في الشام ومصر من أشد أجنحة التغريب تأثيراً.
أما احتواء التعليم الأصلي والسيطرة عليه فأقوى الشواهد عليه المخطط البطيء الماكر، الذي وضعه كرومر ووزيره القسيس دنلوب في مصر، والذي استخدم أحدث ما وصلت إليه التربية وعلم النفس في عصره لإخراج جيل ممسوخ قابل للاستعباد.
"فتح دنلوب مدارس حكومية ابتدائية تدرس العلوم "المدنية" وتعلم اللغة الإنجليزية - لغة الاستعمار - وتخرج موظفين كتبه في الدواوين التي يحتلها ويديرها الإنجليز، يقبضون رواتب تعد بالجنيهات لا بالقروش.
"ولم يكن الأمر في حاجة إلى مزيد من الإغراء.فمن ذا الذي يبعث بابنه بعد اليوم إلى الأزهر إلا الفقراء العاجزون عن دفع المصروفات، وهو له المستقبل المضمون في وظيفة الحكومة حيث "يرطن " بلغة السادة المستعمرين ؟
"وانصرف الناس القادرون – من ذوات أنفسهم – عن الأزهر، واتجهوا إلى مدارس الحكومة بعد الثورة الأولى التي أثارها الحس الباطني المسلم على هذه المدارس "الكافرة" التي لا تعلم القرآن ولا تعد الدين، وأصبح هؤلاء المتعلمون "طبقة "جديدة تستمد طبقيتها من أنها من أبناء الأسر أولاً، ومن مركزها الاجتماعي في وظيفة الحكومة ثانياً، ومن التشجيع الظاهر والخفي الذي تلقاه من سلطات الاستعمار بعد هذا وذاك ".
وبالإضافة إلى أسلوب التربية السيئ المتعمد لم يشأ دنلوب أن تخلو المدارس تماماً من الدين - ولو فعل ذلك لكان أفضل - بل قرر مادة "دين" لكنه جعلها مادة ثانوية في قيمتها الدراسية ثم أن حصصها كانت "توضع في نهاية اليوم المدرسي وقد كل التلاميذ وملوا وحنوا إلى الانفلات من سجن المدرسة البغيض إلى فسحة الشارع أو رحب البيت، وكانت هذه الحصص توكل إي أسن مدرس في المدرسة، يسعل ويتفل، ويمثل أمام التلاميذ ضعف الحياة الفانية المنهارة...فيرتبط الدين في وجدانهم بالعجز والفناء والشيخوخة، كما يرتبط بالملل والضجر والنفور".
وقرر كذلك - لغاية خبيثة - مادة "لغة عربية" وفي الوقت الذي كان فيه مدرس اللغة الإنجليزية يتقاضى مرتباً شهرياً اثني عشر جنيهاً كاملة كان زميله مدرس اللغة العربية لا يقبض سوى أربعة جنيهات، مما جعل الفرق بينهما في المكانة الاجتماعية شاسعاً، وجعل اللغة العربية في ذاتها موضع الاحتقار والازدراء.
وليس أنكى من ذلك إلا المناهج التي كانت تدرس في مدار الحكومة والتي كانت مملوءة بالطعن والسموم فيما يتعلق بالإسلام وتاريخه وحضارته، ومفعمة بالتقدير والإكبار الذي يصل درجة التقديس فيما يتعلق بأوروبا وتاريخها وحضارتها.ومن بين طلاب هذه المدارس تنتقى نخبة معينة للابتعاث إلى أوروبا وهناك يتم المسخ الكامل لها، لكي تعود إلى بلادها فتقبض على مقاليد الفكر والثقافة وتوجهها حسب إرادة السادة المستعمرين.
.......لم يمض على سيطرة الاستعمار فترة من الزمن حتى كان العالم الإسلامي خاضعاً لتأثير التربية والفكر خضوعاً يتفاوت حسب الأقاليم المختلفة.
ففي تركيا - التي لم تحتل احتلالاً مباشراً - بلغ التأثير ذروته في الردة العقائدية والفكرية العنيفة التي انتهجها أتاتورك لطمس الإسلام بيد من حديد.
وفي الهند فقدت الثقافة الإسلامية ريادتها وتقوقعت في المؤسسات الأهلية الصغيرة، وضاع كثير من نشاطها في زحمة الصراع الداخلي والخارجي. أما في العالم العربي فلعل أصدق وصفة لحاله هو ما قاله "توينبي " من أن الصراع الفكري فيه بين الأفكار الغربية والإسلام لم ينتج عملاً غربياً ناجحاً مثل ذلك الذي في تركية وإنما كان نتاجه هجيناً لا هو غربي ولا هو إسلامي "