كيف ظهرت القومية ؟

ملفات متنوعة

كان أثر النزاعات التي احتدمت بين رجال الدين الكنسي والملوك حول الأحقية بالسيطرة والأمر والنهي هل هم الملوك فقط أم رجال الدين

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -

كيف ظهرت القومية ؟


أساس ظهور القومية في شكل مذهب جماعي وله دعاته المتحمسون له كان من البلد المضياف لكثير من الآراء والمذاهب المختلفة – أوروبا – كما عرفت وكان سبب ظهورها هو نفس الأسباب التي أظهرت بقية المذاهب الفكرية فيها متوخية الرغبة الشديدة في هدم سلطة الكنيسة الطاغية التي سامتهم سوء العذاب – كما تقدم – إضافة إلى ما كان يعيشه الأوروبيون من شريعة الغاب والظلم والعدوان وسوء الأخلاق في معاملة بعضهم وعدم وجود الدين الصحيح الذي ينير لهم الحياة، فكان ظهور القومية هناك مظهرا مشاركا لبقية مظاهر الخروج والانفلات عن سلطة الكنيسة وقبضة رجالها وكانت القومية هي إحدى معاول الهدم التي تكاثرت على الكنيسة بعد أن بدأت الكنيسة تترنح للسقوط النهائي إثر إفاقة الشعوب الغربية الأوروبية على واقعهم الشنيع من الذل والخوف والتنكيل والقتل الجماعي والجهل المركب والأحكام الجائرة على أيدي فئة تزعم أنها تمثل الرغبة الإلهية في كل ما تأتي وتذر، فظهرت القومية كغيرها من الأفكار الأخرى ووقفت من الدين وأهله نفس المواقف للنظريات الإلحادية الأخرى ويظهر أنه لم يكن لديهم أي جامع أو رابط يقدمونه لشعوبهم غير هذا الرابط الجديد الذي داروا حوله بكل جد وقدسوه إلى أن أوصلوه قريب الألوهية علهم يجدون فيه عزاءً عن الالتجاء إلى الإله الذي كان هو السبب في إذلالهم على أيدي رجال الكنيسة الذين كانوا يمثلونه في الأرض كما قرره زعماء الكنيسة الرهبان لهم لتحقيق شهواتهم وافتراء على الله تعالى، و على هذا فإن ظهور القومية في أوروبا وعامة دول العالم المسيحي إنما كان لتلك الأسباب الظاهرة وغيرها وكان لهم ما يبرر ذلك الخروج فيما ظهر من أحوالهم – وإن لم يكن مبررا حقيقيا – وبعد خروجهم ذلك الهوا كل ما راق لهم ومنها القومية التي قدسوها وزينوا أمرها لكل الشعوب لتكون العزاء والبديل عن الدين النصراني ورجاله يقول الندوي: 
 " ولا يزال القوميون في داخل البلاد وخارجها يزينون للشعوب الصغيرة القومية ويطرون أدبها ولسانها وثقافتها وتهذيبها ويمجدون لها تاريخها حتى تصبح نشوانه بالعواطف القومية والخيلاء والكبرياء وتدل بنفسها وتظن أنها مانعتها حصونها وما أعدت للحرب وتنقطع عن العالم وتتحرش أحيانا بالدول الكبيرة غرورا بنفسها أو تهجم عليها الدول فلا تلبث إلا عشية أو ضحاها وتذهب ضحية لقوميتها وانحصارها في دائرة ضيقة ولا يغني أولئك المسؤولون عنها شيئا  {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[ الحشر:16]   .
ومن الجدير بالذكر أن القومية كانت في نشأتها لا يرمي أهلها إلا إلى الخلاص من قبضة رجال الدين وتنفس الصعداء من الأغلال التي كانت عليهم. ولكن ما إن تم لهم ذلك الخلاص المنشود حتى انتقلوا نقلة أخرى فصاروا لا يقنعون بذلك الخلاص وإنما تطلعوا إلى ظلم الآخرين والبغي عليهم واستعمار الضعفاء من الناس واستعبادهم وحصل من وراء ذلك شر عظيم وفتن عريضة وحروب ثم انقلب السحر على الساحر فأصبحوا في دوامة القومية التي لا تعقل ولا ترحم ونبغت قرون الشر في رأس كل فريق من القوميين كل ينوح على ليلاه وكل فتاة بأبيها معجبة فانتعش بينهم فن المفاخرات لضرورة الحاجة إليه في ظل القومية التي لم يقم بناؤها في الأساس إلا على هذا المسلك البغيض في بداية تكوينها في أوروبا. 
وبعد أن سار ركب القومية في أوروبا يحطم بعضه بعضا وكثرت الحروب بينهم نتيجة التعصبات القومية الشعوبية الهوجاء عاد الأسد إلى عرينه فقام مفكروهم وقادتهم بالدعوة الجادة إلى نبذ القومية وأنها رجعية وليست تقدمية حضارية ويجب نبذها وأنها تمثل أفكار "هتلر" النازي حين قسم العالم على أساس عرقي أفضلهم ألمانيا. 
ولأن مسلك التقدم والحضارة لا يتماشى مع مسالك القومية الضعيفة فلفظتها أوربا لتقع في أيدي المخادعين والماكرين من النصارى العرب وغيرهم ليتموا حاجة في نفس يعقوب بعد أن بيتوا النية لحرب الإسلام كما سنذكر ذلك في موضعه. 
يقول د. صلاح الدين المنجد: " تنبه العرب إلى فكرة القومية في أوائل القرن بعد أن مضى على موتها في أوروبا فترة طويلة بتأثير الغرب "   .
ومما يذكره الباحثون عن القوميات الأوروبية وسبب ظهورها أن البدايات الأولى لظهور القوميات هناك. 
كان أثر النزاعات التي احتدمت بين رجال الدين الكنسي والملوك حول الأحقية بالسيطرة والأمر والنهي هل هم الملوك فقط أم رجال الدين فقط وكاد أن يتم الحل بينهم على أن تكون السلطة الأمنية للملوك والسلطة الروحية للبابوات. إلا أن الأمور انحدرت إلى هاوية سحيقة كانت هي ثالثة الأثافي وهو النزاع الشرس الذي نشب بين رجال الدين أنفسهم وما وقع بين الكنائس من عداوات خرجت تباعا عن الكنيسة الأم في روما وتعصبت كل كنيسة لآرائها – كاثوليك – بروتوستانت – إصلاحيات... إلخ وانفلت الأمر وصار الحبل على الغارب فقام كل فريق بتكوين نفسه ومذهبه فانتشرت المذاهب والأفكار ومنها قيام القوميات   على ذلك النحو وأخذ النزاع طابعا قوميا.