سعادة من الدّراجة إلى الطّائرة!

أحمد بن عبد المحسن العساف

ولعلّ هذه السّيرة الذّاتيّة من جنس ما سبق، عنوانها: عشت سعيدًا من الدراجة إلى الطائرة، تأليف الّلواء الطيّار عبدالله بن عبدالكريم السّعدون

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

 


ما أعظم أن يشعر المرء بمسؤوليته نحو مجتمعه، وبلده، وأمّته، ومن مفردات هذا الشّعور أن يحكي تجاربه ممزوجة بآرائه، لتخلد وتصبح وكيلًا ينوب عنه، ويبلغ رسالته لمن يقرأ من الحاضرين أو القادمين، وتلك لعمر الله منقبة تحسب لصاحبها الذي تدفعه النّية الصّادقة المخلصة للكتابة، والبيان.

ولعلّ هذه السّيرة الذّاتيّة من جنس ما سبق، عنوانها: عشت سعيدًا من الدراجة إلى الطائرة، تأليف الّلواء الطيّار عبدالله بن عبدالكريم السّعدون، صدرت الطّبعة الثّانية منها عام (2010م) عن المركز الثّقافي العربي في المغرب، وعدد صفحاتها (447)، تشمل إهداء ثمّ مقدّمة الطّبعة الثّانية فالمقدّمة، ويأتي بعد ذلك أربعة وخمسون عنوانًا مختلفة المضمون والحجم، وأخيرًا الفهرس متبوعًا بمقولات عن الكتاب، علمًا أنّ الكتاب في طبعته الخامسة الآن، وتفاعل معه د. عبدالعزيز الخويطر بكتاب أسماه: هنيئًا لك السّعادة!
المؤلف طيّار درس في المملكة وأمريكا، وعمل في مواقع عدّة بالظّهران والطّائف وتبوك والرّياض إلى أن أصبح قائدًا لكلّية الملك فيصل الجويّة، ثمّ عضوًا في مجلس الشّورى، والكتاب سيرة ذاتيّة بارعة، مع إطلالة على النّفس البشريّة في أحوال سموّها وعكسه، واحتفاء بالقيادة والإدارة، وحشد للقيم والأخلاق، إضافة لخبرات وتجارب ومواقف شفعت له بتسطير ومضاته التّربويّة والاجتماعيّة والفكريّة، انكشف منها تقديسه للتّعليم والوقت والرّياضة، ومراعاته للأبعاد الإنسانيّة والواجبات الدّينيّة.

وللبّر في سيرة السّعدون ظهور ساطع منذ الإهداء لوالديه، وللوفاء معالم لا تختفي من المسيرة ظهرت في إشراك زوجه بالإهداء مع الوالدين، وأمّا الجدّيّة والاجتهاد والصّدق في الرّأي ففضائل لا تخفى، وتأتي جميعها في أسلوب مشرق خال من التّكلّف، بعيد عن الكبر وعريض الدّعوى. 

أمّا الطّرائف والمواقف فلا تنتهي، ما بين طفل كاد أن يخطفه راعي ماشية، وولادة منزليّة، وقبلة من أمريكيّة جذبها للفتى العربي عطره الأخاذ، وانتهاء بدعوى كيديّة في سوق تجاري حول قبلة أخرى لطفلة، فضلًا عن شرب أمواه طاقية تحت الإكراه للنّجاة من عين صاحبها! هذا غير مواقف مع عم وخال ومعلم ومدير وزميل ورجال ونساء من أهل البلدة مثل أم فرحان التي تطوّعت بالطّبخ له فلم ينس فضلها، كما أشاد بأخته التي اشترت له من مهرها دراجة فاخر بها لداته من أبناء القرية.

ومن طرائف الكتاب قصّة الشّيطان المتقاعد، والسّائق الصّوام، وحكايات العمّة سارة سواءً في المخبأ السّري للفاكهة، أو حديثها عن مكائد النّساء، أو في زواجاتها التي تراوحت بين سبع وعشر، ووقائعها تجبر القارئ على أن يبتسم أو يضحك أو يقهقه حسب المزاج والمكان!
من الرّوايات الّلطيفة استغراب والدته من حال المرأة في أمريكا، وذهول أمريكيّة من وضع المرأة لدينا، ومن ملحها أنّه رفض إحضار ممرّضة شقراء من شرق أوروبا لوالدته خشية تزاحم المرضى في غرفتها! ومن المحزن تلك المكتبة التّجارية التي فشلت فأصبحت محلّ خياطة، وأولئك الطيّارين الذين ماتوا خلال التّدريب أو العمل، ومن الّلافت مشاركة المؤلف في مظاهرة نادرة حينذاك بعد صلاة الجمعة.

يحضر التّأمل، والقراءة، والكتابة، والشّعر بكثافة في سيرة المؤلّف العسكري، وحضورها يحطمّ ما يشاع عن صعوبة مزاج العسكر وانحصار ثقافتهم في الأمر والطّاعة! وللحريّة في سيرة ابن الغاط معاني مبثوثة ومضمّنة هنا وهناك بقلم من يحب بلاده ويوقّر دينه، ويعلم علم اليقين أنّ الحرية المنضبطة تبني الوطن، ولا تناقض الدّين، وتعزّز الولاء، وترفع نسبة المشاركة الإيجابيّة، ولا تنقص الهيبة، وتحول دون غوغاء الأيادي المضرّجة!
إنّ كاتبنا المؤثر يمثّل طيفًا مباركًا من مفكرين نبلاء، وكتّاب معتدلين، وأدباء صادقين، يكثرون في مجتمعنا، وهم صمّامات أمان يدعون إلى الحقّ، ويأمرون بالخير، وينهون عن الشّر، وبجهودهم في الفكر والتبّيين يُلجم الغلو سواء كان مبعثه التّدين الخاطئ العابث بالنّصوص، أو التّغريب الفج الهاجم على القيم وأسس الثّقافة، وهذا هو عين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحقيقته، وما أعظمها من شريعة لولا التّقزيم والتّشويه وسوء الاستخدام.

ومع أنّ الرّجل طاف العالم مسافرًا إلّا أنّ الحنين لصحاريه ومرابعه يغلب الافتتان بأيّ بيئة مهما كانت، فلا يبرح أن يعود لبلدته بصحاريها وجبالها ومزارعها ومغاراتها وأغنامها، ويقضي وقته هناك مستمتعًا بنقاء الهواء، أو سابحًا بخياله في سماء صافية تزينها النّجوم، وقمين بهذه المتعة أن تنتج إبداعًا معرفيًا، وألقًا ذا أفق إنساني رحب معطاء.

في السّيرة دعوات متكرّرة للتّطوير والتّجديد، وتوقير الأنظمة، ومراعاة وضع الأهداف وتطبيق الجودة، مع عناية فائقة لا تستغرب بالتّعليم والمعلّم والمناهج الصّفيّة والّلاصفيّة، وينصرف الاهتمام الأكبر إلى الطّالب محور العملية التّعليميّة وهدفها وأمل المستقبل الأحسن، ولن يكون ذلك إلّا باحتضان المواهب، والتّشجيع على التّعلم والابتكار. ومن جمال الكتاب ذكريات المدرسة، وأستاذه الأديب خالد البرقاوي الذي سيبتهج لو وقعت عيناه على كتاب تلميذه النّجيب. 

احتار السّعدون بين الطّب والطّيران، فاختار أن يطير بجسده، ويرتقي بخلقه، ويسمو بمشاعره، ويداوي بأدبه، ويقي بفكره، ويعالج بتجاربه، ويجمع ذلك كلّه بقوله ملقى عبر المحاضرات والكلمات، أو مكتوبًا في مقالة أو ضمن سيرته التي وجدت رواجًا مع أنّ منشئها لم يكن من أصحاب القلم المعروفين من قبل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد تكون من جملة التّوفيق المرافق له من بركة بره بوالدته على وجه الخصوص لأنّها عمّرت خلافًا لوالده.

ولأبي نايف وثامر وفيصل أعداء على رأسهم الكسل، والانغلاق، والسّمنة، والتّجهم، والمفاهيم المغلوطة، والاتّكاء على المثبطات من الأقوال والأفكار، وإدمان مشاهدة الشّاشة، ولأبي دانة ونورة ومشاعل والجوهرة لطف لا يستغرب ولا يستهجن مع المرأة، وعلاقة وثيقة بريئة بالجميلات منذ صغره، وهو مفطور على حب الغزلان دون اصطيادها، ويكتفي بما كفاه الله مع الشّكر والحمد والثّناء، ويرى أنّ كثرة الأعداد بلا جودة إعداد جناية تجاه المجتمع والأجيال.

وفي تضاعيف سيرته حرب لا هوادة فيها على الظّلم والفساد بأنواعه من خلال سنّ الأنظمة، والصّرامة في تطبيقها، مع إحياء المراقبة الذّاتيّة، ووضع الرّجل الأنسب في المكان الملائم، وفيها دعوة منضبطة للحريّة وتبادل الآراء، وتشنيع على المثقفين المخادعين أصحاب التّطبيل والدّجل والموافقة الدّائمة الكاذبة على آراء الأسياد، مع خوف مشفق على أمتنا من تهوّر بعض ساستها، والزّج ببلاد العرب والمسلمين في متاهات صدام لا جدوى من ورائها، دون نكير أو اعتراض من مثقف أو مفكر أو رجل دولة.

ينحصر سر الصّحة والسّعادة عنده في ممارسة الرّياضة بأنواعها، واعتدال المأكل والمشرب، والنّوم الباكر، ويضيف لها أثر العمل، ومتعة العطاء، وقيمة المشاعر النّبيلة، وبالمقابل يقاوم التّدخين والمخدّرات والمسكرات، ويفتتح مكتبة وأندية رياضة وسباحة وغوص حيثما استطاع في القواعد والكلّيات، ويعلي من قدر البيئة والحفاظ عليها، ويرى أنّ الحياة فرصة واحدة فلم نتركها لتضيع بالتّجارب الفاشلة؟
وللأسرة موضع يليق بها، برز ذلك واضحًا من مسيرته في بيته، وطريقته في تربية أنجاله، وعونه لشباب أسرته المقبلين على الزّواج ماديًا، ثمّ توجيههم بنصائح على رأسها إشاعة الحب، والتّغاضي، وترسيخ قيم العلم والعمل، والبعد عن البخل والشّك، والمهارة في صنع المناسبات السّعيدة، والتّمسك بخلاصة للحياة الزّوجيّة مختصرها إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويحثّ الزّوج على حسن الاختيار، وبناء بيت آمن متعاون.

وهو رياضي بامتياز، يحب المشي، والجري، وركوب الدّراجة، وصعود الجبال، والسّباحة، والغوص، كما أنّه مغرم بتعلّم الجديد، ولذلك بادر لإتقان الطّباعة بمجرّد تقاعده، وإبّان انضمامه للكلّية أتقن الطّيران قبل معرفة قيادة السّيارة! ويرى أن صنع البهجة ونشر الفرح سهل دون تكاليف أو اعتداء على عرف صحيح أو حكم ثابت، ويكفي لذلك ابتسامة صادقة، وكلمة تحفيز، وهما بلا تكلفة أو مؤونة!
كما يحرص على تنمية مهارة إثارة الأسئلة، ونقد الذّات دون جلدها، ويوصي بإجادة فنّ بناء العلاقات الإنسانيّة واستثمارها، ويؤكد على ضرورة لقاء الجمهور والمستفيدين مباشرة، ومتابعة العمل عن قرب بعيدًا عن التّقارير، ويتمنى أن ينقل النّاس الفوائد والمهارات التي اكتسبوها لمن بعدهم، فشباب الأمّة يتجدّد باكتساب العلم من طرائقه المختلفة، والأفكار العظيمة توجّه العالم، ولن نصل لهذه الأفكار ما لم نفتح النّوافذ بإرادتنا، مع امتلاك رحابة في الأفق الإنساني، وسعة النّظر للكون بمن وما فيه، وحسن استقبال للجمال والموهبة والفن.

لقد عاش المؤلّف حياته بأطوارها المتباينة في حال تصالح مع نفسه، ورضا عن الله وقضائه، وصبر على الّلأواء والشّظف، مع إيجابيّة وعزيمة ومضاء، واجتهاد في أخذ الحياة بقوّة وانضباط، حتى صنع ما يريد وزيادة، ونال السّعادة التي يشقى لتحصيلها أقوام دون بلوغها، والله يجعل تجربته المنشورة نبراسًا وأجرًا، ويديم له الانشراح في دنياه، وبعد عمر مديد حسن المقام في برزخه، وصادق المقعد في آخرته عند مولاه.


أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض