صنعة كاتب وكلمات تبقى!
أحمد بن عبد المحسن العساف
اقتبست أغلب الأفكار أعلاه من كتاب جميل عنوانه: صنعة الكاتب: ما يبقى من الكلمات، تأليف فهد بن صالح الحمود، أصدرت مكتبة العبيكان الطّبعة الأولى منه عام ١٤٣٧=٢٠١٦م
- التصنيفات: الشعر والأدب -
الكتابة رزق من الأرزاق التي يهبها الله لمن يشاء من عباده، وما أحسنه من رزق حين يكون معه التّوفيق، والمتانة، والتّأثير، والخلود، ويستوي بعد ذلك الأصيل منه والمستحدث، فغاية المنى أن يكون المنتج من العمل الصّالح الذي يبقى، وينتفع به، والأجر بعد القبول من الله.
وحتى لو كانت الكتابة طبيعة وجبلّة في الإنسان، فلابدّ له من بناء العادة، والتّوسع في اكتساب العلوم، وتمهير نفسه، وتقوية ملكته، وتجويد قدراته؛ كي يستطيع الاستمرار فيها، وينجو من التّكرار الممل، أو الجفاف الذي يؤدي إلى الموت، أو الضّمور.
فبدون الإصرار لا تفعل الموهبة شيئًا، والكاتب لا ينتظر دلال الإلهام لأنّه دلال وهمي أو مبالغ فيه، وإنّما تتولّد الكتابة من تكرار فعلها؛ حتى تتحسّن الموهبة، وترسخ العادة بالمثابرة والمواصلة، تلك المثابرة التي تستمر مع الكاتب ما ظلّ على قيد الحياة يحمل قلمًا، فتصير الكلمة مثل الإبرة ذات وخز لا ينتهي إلّا بتسطيرها، أو تغدو حربة تمزّق حاملها ما لم يكتبها!
ويمكن للنّاشئ الاتّكاء على التّقليد في البداية وصولًا إلى الاستقلاليّة، وبوسعه إعادة التّعبير عن نص سابق يتوافق مع أفكاره بكلماته وأسلوبه؛ حتى يبلغ مرحلة ينتج فيها الفكرة، وينسج النّص، ويصف الشّعور، ويبني الأسلوب، وينتسب العمل كلّه له، فالكاتب الذي يسير على دروب الآخرين دون أن يخط لنفسه مسارًا ينتهي إلى لا شيء!
أمّا قوت الكتابة ووقود الإبداع فهو القراءة، إذ يقضي الكاتب أكثر وقته معها، خاصّة قراءة الكتب الملهمة وذات البعد التّأسيسي، ومع مركزيّة القراءة في حياة الكاتب فعليه أن يحذر من أن تكون مخدّرة له، أو أن تشلّ قلمه بالتّماهي مع لذّتها وهجران الكتابة، ومن الحكمة أن يتوقف الكاتب في مرحلة ما عن القراءة، ثمّ يكتب، وما أعظم الكاتب الذي يتقن ممارسة فعلي القراءة والّلاقراءة.
ويزيد تنويع القراءة من خصوبة الخيال، فالخيال الواسع سوق كبيرة للأفكار المبدعة، كما أنّ الشّغف المعرفي، والاحترافيّة في الاطلاع، ومعرفة فنون كثيرة، تعين الكاتب على الإفادة من طريقة معالجة المؤلفين والكتّاب وحجاجهم، وهي أنفع من حفظ معلومات يمكن استدعاؤها بضغطة زر. ويتجنّب الكاتب الحصيف العمل مثل موصل الرّسائل، إذ يختفي ما قرأه في تضاعيف نصوصه، فيكون مثل النّحلة التي تأخذ رحيق الأزهار؛ لكنّها تنتج عسلًا ولسعًا أحيانًا!
ولا مناص للكاتب من أفكار، ولكلّ فكرة علاقة مع اعتقاد الكاتب؛ تظهر مثل ملصق يعلن عن هويته الفكريّة حتى مع وجود مشترك إنساني عريض. ولكي يجد الكاتب أفكاره يستخدم عدسة بالغة الدّقة، ثمّ يصرف أقصى درجة من جهده لصنع معطيات جديدة، حذرًا من صبغ عمله بما يشاهد فقط؛ فدقائق العلوم تدرك بالتّأمل وتقليب أوجه النّظر، وكم من سوانح فريدة التقطت فكانت فتحًا وإضافة.
ولأنّ فتنة المرء بإنتاجه الابداعي تفوق افتتانه بجميع نعمه، يصبح الاعتداد المعتدل الذي يفتخر بالعمل ولا يتعالى على النّقد، أو يرفض الرّجوع إلى الصّواب، هو الحل الوسط بين نرجسيّة مفرطة، أو تواضع مصطنع، وما أكثر بركة من يكتب بعد أن يلّم بأشتات موضوعه، ويحيط بأطراف فكرته، مع استعداد تام لسماع الآراء الأخرى.
بينما يجني الكاتب على نفسه حين يصمّ أذنيه ويغلق عينيه عن تفاعلات القرّاء، وجنايته أنكى إذا خلت كتابته من التّركيز، أو دفع بعمله للعلن على إثر ثقافة ناقصة، أو تجربة مبتورة، فيكون عرضة للسّخرية والمهانة، فمن مقاتل الكاتب أن يصاب بغرور الكتابة واستسهالها، وما أكثر ما جاء بالعجائب قوم شاركوا في نشاط مرّة واحدة، ثم هجروه وغدوا من نقّاده وهم لم يعرفوه أصلًا.
وتعدّ التّجربة الحياتيّة خير رافد للكتابة، فكبار الكتّاب يحولون التّجارب إلى رسائل عظيمة، ويستفيدون من طبائع الأشياء وخصائص المخلوقات من حيوان ونبات، مع الإفادة من بعض الأشخاص الذين يوصفون بأنّهم كتب حيّة، ومن حكايات التّراث وأخبار الأجداد.
ويجتاز الكاتب عقبة كؤودًا إذا كانت كتابته تحوي على معلومة، وفكرة، وإشارة، وطريقة لبلوغ المعرفة أو الفهم، فقيمة العمل ليست بما يحمله فقط، بل بما يوحيه أيضًا، وما يراعيه في دورات الفكرة بعثًا وانكماشًا، فأصل الفكرة سؤال ينفذ إلى الأعماق بحثًا عن جواب، وإثارة التّساؤلات فنّ يوصل المراد، وقد يحمي من الأوغاد!
ينتبه الكاتب من مزالق الكتابة بلغة وهو أجنبي عن ثقافتها، ويسعى للاندماج مع ما يكتبه بالتّفكير المستمر قبله، والتّأمل الدّائم لما يتعلّق به، ويستيقن أنّ الثّقافة الواسعة لا تتناقض مع التّعبير الواضح السّهل، ويعلم بأنّ خسارة أيّ فكرة بكمن بسوء التّعبير عنها، ووضعها في مشهد لا يناسبها، ولن يطلق الكاتب رأيًا عامّاً ما لم يكن يمتلك الرؤية ويتشبع بها، فالشّرر لا يتطاير إلّا من لهب.
وإنّما يكتب الكاتب ليجد في نفسه والقرّاء أثرًا مما كتب، وهذا أجدى من مجرّد الثّناء، ومن حكمة الكاتب توجيه إبداعه لجمهور محدّد حتى لا يغدو مثل الجرس الذي يقرع في العدم كما يقول نزار، والكاتب معني بالسّعي لرفع وعي النّاس حتى يفهموا ما يكتبه حسب رأي العقاد، ومن نجاحات الكاتب أن ينتج قارئًا بصيرًا، ولن يحقّق ذلك مالم يضع أمام عينيه إبّان الكتابة قارئًا محتملًا.
ربّما ينجح الكاتب في انتقاء الّلفظ، وابتكار المعنى؛ بيد أنّه يخفق في نقل الشّعور فيولد العمل ميتًا يحرم القارئ من العيش مع الكاتب في فرحه وحزنه، ولذلك قال كاتب: لا أكتب مالم أكن مثخنًا بالجراح، وأصدق ساعات الكتابة حال الانفعال؛ فمن الصّعب استعادة الانفعالات القديمة، أو استرجاع لحظات الامتلاء بالحدث، فالكتابة كالحمل والولادة، المتقدّم منها خداج، والمتأخر موات أو مشوّه.
ولأنّ المعنى جوهر والّلفظ وسيلته، يبتعد كاتبنا عن التّكلّف، ويستعمل من البلاغة ما يزيد في حياة المكتوب، وغنى الكاتب، ويقف عند حدود الفصاحة والبلاغة في الوضوح وفهم المعنى دون إغراق أو ترميز، فالتّرميز والألغاز المعقدّة مزلّة أقدام وطاردة للقرّاء.
لذا يحسن بالكاتب اتّخاذ معجم خاص له بالكلمات، مع تحاشي الثّقيلة منها، والاحتفاء بعفوية الألفاظ، مع الاقتصاد في المفردات قدر المستطاع، ومن براعة الكاتب أن يكتب ما لا يقرأ، ومن حسن حظّه أو سوئه أن يكون لدى القارئ ملكة قراءة ما لم يكتب!
ولا يراكم الكاتب المتقن المعاني، ولا يسرف في حشد المعلومات وكأنّه لا يملك إلّا فرصة واحدة، فهذا يجعل عمله متخمًا عسير الهضم، ويفقده تماسك الأسلوب ومتانة العمل، والوحدة الموضوعيّة، فتضيع منه البوصلة، ويرتبك إيقاع الكتابة، ويحتار القارئ بين متاهتي الإملال والإخلال.
كما يحدث نوع المعالجة الكتابيّة فرقًا، والعمل يزهو وينجح بمراجعته وتنقيحه باستمرار، وهل الكتابة إلّا إعادة كتابة وإدامة تعديل وتبديل؟ ومن الضّرورة ألّا ينتقل الكاتب بين كاتب وناقد؛ وإنّما السّلوك الصّحيح أن يكتب ويكتب مادام مسترسلاً، وإذا توقف أشرك ناقده الدّاخلي، ومارس عملية التّصحيح وما أمتعها مع أنّها متعبة، ولربّما استهلكت المراجعة أضعاف وقت الإنجاز الأساسي!
إنّ الكاتب المحترف يتعامل مع مزاجه بذكاء، فيقرأ عملًا قديمًا لشحن النّفس، أو يشرع في أكثر من كتاب أو مقالة في ذات الوقت، ويتحفّز للكتابة باكتمال الفكرة، ويقف عند نقطة تبقي الشّوق والإثارة وتساعد على إتمام العمل في الغد، ويرفع حيويته الدّاخليّة بممارسة الرّياضة، وإنشاء حوار، وتغيير زمن الكتابة ومكانها، وتدوين المسودّة الأولى على أيّ حال، والتّحايل على الكتابة بحديث المجالس، وتغريدات تويتر، ومراسلات الواتساب المثمرة.
اقتبست أغلب الأفكار أعلاه من كتاب جميل عنوانه: صنعة الكاتب: ما يبقى من الكلمات، تأليف فهد بن صالح الحمود، أصدرت مكتبة العبيكان الطّبعة الأولى منه عام ١٤٣٧=٢٠١٦م، ويقع في (٢٢٢) صفحة من القطع المتوسط، علمًا أنّي تركت أضعافها ليعود إليها القارئ بنفسه.
يتكوّن الكتاب من فهرس ومقدّمة، فأحد عشر عنوانًا بعضها تحوي عناوين أخرى ثمّ المراجع، وفي المقدّمة أبان المؤلف أنّه جمع كلّ ما وقع عليه بصره أثناء القراءة فيما يخصّ الكتابة، لاهتمامه ومشاركته بهذا الفعل، ثمّ أصبح تيّسر سبل الكتابة عبر مواقع التّواصل الاجتماعي دافعًا له لإكمال مشروعه حول الكتابة، مع إيمانه بأنّ الإنسان قد يكتب بإبداع دون إلمام بالقواعد الكتابيّة، ويقينه بصعوبة صياغة منهجيّة للكتابة، والله يضاعف أجر جهده التّنويري في كتابه عن القراءة، ثمّ في كتابه هذا عن ثمرتها الكبرى.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض