أطواق النّجاة…!
أحمد بن عبد المحسن العساف
كما أنّ معرفة العوائق، وتقدير العواقب، واستشراف المستقبل، تنفع كثيرًا في اختيار الإجراء الأصلح
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لا تخلو حياة الإنسان من أمر جديد يحدث لأوّل مرّة، أو بصفة فجائيّة، فهو طالب مستجد، وزوج، ووالد، وموظف، ومسافر، ومريض، ومبتلى لا قدّر الله، والله يحمينا ويحميكم، فمهما اجتهد الواحد لابدّ أن تعبر به الأزمات، ولو سكن في قصر مشيد، وخدمته الجموع.
لذلك من الحكمة الضّروريّة إجادة فنّ ابتداء الإجراء الأوّل، ومهارة الإسراع للإجراء الاستباقي، وقوّة تحمّل الإجراء التّصحيحي، وكلّها تشبه اصطحاب أطواق النّجاة حال ركوب البحر أيّاً كانت مهارة القبطان والملّاحين، وحتى لو كانت أمواج البحر هادئة، وإنّ ثقافة الاحتياط، والأناة، والاحتمالات، لمفيدة وضروريّة.
وتغيب هذه المفاهيم نظريًا وتطبيقيًا عن مناهج التّعليم، وبرامج التّربية، ومشاريع التّأهيل الإداري والقيادي، وقليل من يلتفت إليها، مع مالها من أثر في تقوية بناء، أو إبطال مفعول، أو إصلاح خلل، أو تقليل أذى، أو حرمان الآخرين من البطولة كما فعلت الزّباء بيدها لا بيد عمرو بغضّ النّظر عن تفاصيل الموقف.
ترتكز هذه الإجراءات باختلافها على أسس مثل تحديد الأهداف، وترتيب الأولويات، وحسن اختيار الأعوان، فمن يعرف أهدافه، ويضعها في موقعها المناسب، وينتقي المؤهلّين، سيقرّر ما هو الإجراء الأوّل الأنسب، والعمل الاستباقي الحكيم، والمخرج التّصحيحي المهم أو العاجل، وإذا غابت هذه الخصائص فمن الطّبيعي أن يكون الارتباك مع التّخبط هما السّمة الغالبة.
كما أنّ معرفة العوائق، وتقدير العواقب، واستشراف المستقبل، تنفع كثيرًا في اختيار الإجراء الأصلح، وأدائه، وينضاف لها أن يعي المرء أو الكيان ما لديه من قدرات، ومكامن قوّة، وأوراق تأثير، وبعد فحص هذه الأشياء مجتمعة؛ سيقود التّفكير القويم الواقعي إلى الصّواب والرّشاد بعيدًا عن الأمنيات التي لا تدفع خطرًا ولا تجلب فائدة.
ويلزم الصّبر على المكاره، ورباطة الجأش، والمضي في الطّريق بعزيمة دون توان أو تراخ؛ فربّما تخلّى المرء عن شيء اتّقاء لخطب أنكى منه، تمامًا كما يوافق المريض على بتر أصبع قبل أن يستفحل البلاء إلى مساحة أكبر، فيتلف ما هو أعظم، أو يقضي على الحياة من أصلها، والفقيه من يعرف خير الخيرين، وشر الشّرين.
ولبعض الإجراءات أهداف مؤقتة حتى تبلغ مرحلة التّكيّف قبل الانصراف نحو التّصحيح الكامل، لأنّ استقرار السّفينة يساعد ربّانها على التّعامل مع أمواج البحر العاتية، والإفاقة العاجلة من الصّدمة تعين على التبّصر والإبصار، وهي مزيّة أشاد عمرو بن العاص لأجلها بالرّوم مع أربع غيرها، وأخطر إجراء ما ترافق مع العجلة والحيرة.
وفي السّيرة النّبوية الزّكيّة، وعهد الخلافة الرّاشدة، أمثلة كثيرة لأطواق نجاة على هيئة إجراء أو قرار أو سياسة، فالأوّليّة مثل بناء المسجد بعد الهجرة مباشرة، والإخاء بين مجتمع المؤمنين، وإمضاء جيش أسامة، والاستباقيّة مثل كتابة الوثيقة مع سكان المدينة منعًا للشّقاق، وحفر الخندق حماية لطيبة، وجمع المصحف كي لا يختلف فيه، والتّصحيحية مثل دفع دية المقتولين بالخطأ، وحرب الرّدة، واعتماد التّأريخ الهجري.
أمّا في الفقه فيسلم الإنسان بالشّهادة، ويستبق الصّدقة والزّكاة بتطهير المال من الحرام، ويستعدّ للدّعاء بأكل الحلال، وما سدّ الذّرائع إلّا إجراء استباقي رشيد، وحين يذنب المرء يستغفر، ويتوب، ويفعل كفّارة أو أكثر، ويدفع الدّية، ويطلب العفو والصّفح، ويسجد للسّهو الذي يجبر بعض النّقص، وبعض النّقص لا يجبره إلّا النّقض وإعادة البناء، وهذه الأعمال تصحيحية
وفي الإدارة والسّياسة يترقّب النّاس أوّل قرارات المسؤول الجديد، ويكون محطّ الأنظار في مستهلّ أمره إذا قال أو فعل، ويدرس الحصيف منهم البيئة المحيطة فيهتبل المغانم ويحوزها، وينأى عن المصاعب ويتجاوز شباكها، وإذا وقع خطأ عالجه الموّفق بإجراء يقلّل من شناعته، ويدفع عقابيله، ويزيده خبرة وحذرًا.
إنّ العدل، والإحسان، وأداء الأمانة، واستباق الخيرات، وقمع الفساد، من أسرار النّجاة، والاستمساك بها شأن الحكماء، فكثير من المكاسب تتلاشى، وكثير من الآفات تتفاقم، بسبب تضييع الأمانة، وتوسيد الأمر لغير أهله، وإساءة استخدام النّفوذ والقدرة، وضعف الاستعداد، وغلبة التّردد، ومجاراة الهوى، والتّغبيش على الحقيقة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض