أحلامٌ لن تضيع !

حسام جابر

فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم )

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

كتب / حسام جابر

أحلام تباع!

رأى  الأديب المصري نجيب محفوظ (1911 – 2006م)  طفلاً يبيعُ الحلوى عند إشارة مرور .. فبكى! ثم كتب :

وأحلامُ الأطفالِ قطعةُ حلوى

وهذا طفلٌ يبيع حُلمه!

صدق ورب الكعبة ..فكم من حلمٍ قد تركناه .. عند أول نازلة بلاء؟!

وكم من رفيقٍ ودّعناه .. عند أول منعطف في الحياة ؟!

وكم من وعدٍ أخلفناه .. لعدم الصبر على الوفاء ؟!

إنها آفة كثير من الناس .. أن تأخذهم الدنيا بتقلابتها وصوارفها عن أحلام وغايات ..

قال ابن القيم (691 - 751 هـ = 1292 - 1350 م) موقظًا لنا:

( ومن طمحت همَّته إ لى الامور العليَّة ، فواجبٌ عليه أن يسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنَّية ) (1).

ثم قال: ( فالمكارمُ منوطةٌ بالمكاره، والسعادةُ لا يُعَبُر إليها إلا على جسر المشقة، فلا تُقطعُ مسافُتها إلا في سفينة الجدِّ والاجتهاد . قال مسلمٌ في صحيحه: قال يحي بن كثير : لا يُنالُ العلمُ براحة الجسم .

وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة .

فيا وصلَ الحبيب أمَا إليه

بغير مشقةٍ أبداً طريقُ

ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجابٍ من الجهل، ليختصَّ الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم ) (2).

لا تترك حلمك .. فإنَّما الناس بأحلامهم !

اجتمعَ في الحجرِ أربعةٌ: مصعب، وعُروة، وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنَّوا.

 فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة.

وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم .

وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرةَ العراق والجمعَ بين عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين.

وقال عبد الله بن عمر: وأما أنا فأتمنى المغفرة.

قال: فنالوا ما تمنَّوا، ولعل ابن عمرَ قد غُفِرَ لهُ (3).

نعم.. قد تجُبرنا الحاجة والحياة على ترك أمور .. ومفارقة آخرين .. والتخلي عن محبوبات ..

لكن .. حينها خذ بنصيحة أبي حامد الغزالي (450 - 505 هـ = 1058 - 1111 م) لتلميذه:

( أيها الوَلَد .. اجْعل الهمّةِ في الرُّوح، والهزيمةَ في النَّفس، والموتَ في البدنِ، لأنّ منزلكَ القبرُ، وأهلُ المقابرِ ينتظرُونَك في كُلّ لحظةٍ متى تصلُ إليهم، إيَّاكَ إيَّاكَ أن تصل إليهم بلا زادٍ ) (4).

لا أحلام بدون آلام :

ومهما كان البلاء .. فكن على يقين .. أن أشياء صغيرة تملكها .. لا تلقي لها بال ..

أحلام وأمنيات لدى آخرين !

( قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي:

دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي:

 ( يا أبا عبد الله: عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور ) -كأني أسهل عليه الِإجابة-.

فقال لي أحمد بن حنبل: (إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحت)) (5)!

وقال جعفر الخلدي البغدادي: (ما عقدتُ لله على نفسي عقدًا، فنكثته) (6).

وقيل:

ثمـانيةٌ تجري على النَّاسِ كلِّهِم

ولابُدَّ للإنسانِ يلقى الثــمانية

سرورٌ وحزنٌ، واجتماعٌ وفرقةٌ

وعسرٌ ويسرٌ، ثم سقمٌ وعافية

فكن على يقين أن آلام اليوم .. هي ذكريات الغد .. وأن مشقة الأمس .. لن تجد إلا ثمارها اليوم .. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: كان سول الله  ﷺ إذا أفطر قال:

( «ذهب الظمأُ، وابتلَّت العروقُ، وثبتَ الأجرُ إن شاء الله» ) (7).

ومن التَّوحد في زمانِكَ فازدَد!

ولكن .. كثير من أحلامنا لا نجد من يشاركُنا إيَّاها ويُعيننَّا عليها !

هنا يقرر الشيخ محمد الغزالي (1335 - 1416هـ =1917 - 1996م)  بكل وضوح: ( والحقُّ أنَّ الرجل القويّ يجب أن يدع أمر الناس جانبًا، وأن يندفع بقواه الخاصة شاقًا طريقه إلي غايته، واضعًا في حسابه أنَّ الناس عليه لا له، وأنهم أعباء لا أعوان، وأنَّه إذا ناله جُرح أو مسَّه إعياء فليكتم ألمه عنهم، ولا ينتظر خيرًا من بثَّهم أحزانه) (8).

وقد قيل:

لا تجُزعَن الوحدة وتَفرد

ومن التَّوحد في زمانِكَ فازدَد

ذهبَ الإخاء فليسَ ثم أخوَّة

إلا التَّملق باللسان وباليد

وإذا كشفت ضميرَ ما بصدُورهِمِ

ألفيتَ ثمَّ نقيعَ سمٍّ أسود

واعلم أن الناس يحسنون الرثاء ولا يحسنون الإنصاف!

في رسالة لأمير البيان شكيب أرسلان ( 1286 - 1366 هـ = 1869 - 1946 م) إلي الأستاذ محمد كرد علي ( 1876 – 1953م) سنة 1930م ردًا على طلب الثاني من الأول جمع مقالاته في كتاب مستقل 

( وغاية مكافأتي عليه -أي ما كتبه- أنهم بعد موتي سيقولون في ترجمة حياتي:

كان ـ رحمه الله ـ يكتب كثيراً جداً، سبعاً أو ثمانياً من الساعات كل يوم، ولم يكن يساويه في ذلك إلا المرحوم كرد علي، فذلك أيضاً كان من الأفذاذ في هذا الباب) (9).

ثم قال: ( ولكن ينبغي أن تعلم أنك لا تُعطى حقك إلا بعد فراق هذه الدنيا. ومادام المرء حياً فقلوب معاصريه قاسية عليه) (10)!!

الأيام مطايا الأحلام:

كل يوم جديد تحياه .. وكل شمس تدرك شروقها وغروبها .. مطية لك نحو حلمك!

قال ابن القيم: ( فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضّنْك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرع من مرّ السحاب.

فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم ) (11).

فصاحب الحلم ابن وقته! كما عبر بذلك بعض الصوفية ..

ويشرح ذلك الإمام ابن القيم في المدارج فيقول معلقًا على عبارة أبي علي الدقاق: الوقت ما أنت فيه :

( وقد يريد: أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل. وهو اصطلاح أكثر الطائفة.

ولهذا يقولون: الصوفي والفقير ابن وقته.

يريدون: أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما هو أولى الأشياء به، وأنفعها له.

فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة.

فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه، بل يهتم بوقته الذي هو فيه. فإن الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الوقت الحاضر، وكلما حضر وقت اشتغل عنه بالطرفين. فتصير أوقاته كلها فواتا) (12).

وأخيرًا .. لا تقف .. فما ضاع حلم ورائه عاملٍ .. ولا تعش على أملٍ لا تصنعه !!

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 

المصادر والمراجع:

 

(1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة  - ابن قيم الجوزية – ط دار عالم الفوائد – مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي - ص 299.

 

(2)  السابق -ص 300.

 

(3) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك – ابن الجوزي - دار الكتب العلمية، بيروت - 1412 هـ - 1992 م – جـ 6 – ص 134.

 

(4) أيها الولد – أبي حامد الغزالي – دار البشائر الإسلامية، بيروت – 1431 هـ = 2010 م – ص 109، 110.

 

(5)علو الهمة – د. محمد إسماعيل المقدم - دار القمة - دار الإيمان، مصر- ط 2004م- ص 30

 

(6)  السابق – ص 37.

 

(7)  حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته -  رقم: (4678).

 

 (8) جدد حياتك – محمد الغزالي – ط نهضة مصر – أكتوبر 2005م – ص 195.

 

(9)  شكيب أرسلان داعية العروية والإسلام – أحمد الشرباصي – ط وزارة الثقافة والارشاد القومي والمؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – بدون تاريخ نشر – ص 308.

 

(10)  السابق.

 

(11) الداء والدواء – ابن القيم - دار عالم الفوائد - مكة المكرمة - الطبعة: الأولى، 1429 هـ - ص 358 ، 359.

 

(12) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين – ابن  القيم - دار الكتاب العربي ، بيروت - ط 1416 هـ - 1996م – جـ 3 – ص 124.