الارتهان إلى عقل الشافعي .. والفراغات الثلاثة:المقال الأول

فهد بن صالح العجلان

السؤال يقول: 
كيف نرتهن لعقلٍ عاش في زمان مختلف عن زماننا، لم يدرك ما تغير بعد عصره، فلماذا لا نجتهد نحن كما اجتهد، ونبحث عن الحلول من دون الارتهان لهذا العقل.

  • التصنيفات: طلب العلم -

  {بسم الله الرحمن الرحيم}


بعث إلي أحد الأصدقاء مقطعاً لأحد الاساتذة يتحدث فيه عن خطأ العقل المسلم المعاصر في الارتهان لعقل الشافعي، الذي كان خاضعاً لشروط عصره، ثم دعا إلى ضرورة استفزاز العقل لينهض من جديد فيحدث قولاً على قولاً، ويكون عقلاً حياً لا يبحث عن الإجابة من الأموات.

سألني صاحبي: ما الإشكال في مثل هذا النقد، وما الخلل في إثارة هذا التساؤل؟
هذا سؤال مشروع يا صاحبي، وهو معنى يتردد في أذهان بعض الشباب والفتيات، ولهم أن يعبروا عنه بوضوح، ومن حقهم أن يجدوا الجواب الشافي عنه.
دعني فقط أعيد لك صياغة الإشكال بطريقة واضحة تحدد لك محل السؤال بدقة، حتى ندرك جوهر الإشكال بعيداً عن التنميق اللفظي والإثارة العاطفية.

السؤال يقول: 
كيف نرتهن لعقلٍ عاش في زمان مختلف عن زماننا، لم يدرك ما تغير بعد عصره، فلماذا لا نجتهد نحن كما اجتهد، ونبحث عن الحلول من دون الارتهان لهذا العقل.
النقطة الأولى التي يجب أن أضغط عليها في بدء مناقشة هذا الإشكال أنه من أقدم الاشكالات المثارة على الفكر الإسلامي، فهو اعتراض قديم ومشهور، وتكرر عرضه في حالتنا المعاصرة كثيراً، ونوقش كثيراً أيضاً، فشعور الشخص بحداثة مثل هذا الإشكال ناشئ من قصور اطلاع، ولا أقول هذا لأنتقص ممن يثير هذا الإشكال، وإنما هذا محفز لنا جميعاً أن لا تستفزنا الإشكالات القديمة المستهلكة حين تقدم في خطاب إنشائي براق.
هذا الإشكال أثير قديماً من الخطاب العلماني المعاصر، وكان يهدف أساساً إلى التشكيك في فهم النص الشرعي، فهم يقولون: هذا النص يفهم بناءً على أي طريقة؟ أنتم تريدون أن تخضعوننا لفهم أشخاص عاشوا وفق ظروف مختلفة عن زماننا، ولا يصح أن نحتكم إليهم في الفهم، وبناءً على ذلك فيجب أن نبتكر قواعد جديدة للفهم موافقة لعصرنا، وبطبيعة الحال أن هذه القواعد ستكون قواعد موجهة تريد الوصول إلى نتائج محددة سلفاً، ولا تقوم على منهج علمي مستقيم، وإنما فتح النص لقبول كافة التفسيرات بلا منهج عقلاني ولا طريقة موضوعية.
من هنا نشأ هذا السؤال، وهذا من قبيل التوصيف العلمي للمقولات، وليس من قبيل الشتم أو التشويه لأي أحد، فهذا توصيف لحال هذه المقولة وكيف نشأت، ولا يعني أن كل من قالها يكون متبنياً للخطاب العلماني، ولا أن يوافقهم في الدافع والنتيجة، فهذه المقولة أخذت بعد ذلك تستعمل بمقاصد مختلفة.

حسناً، دعونا نحلل هذه المقولة ونفكك مقدماتها ونغوص في عمقها قليلاً، وسنجد أنها قد قامت على ثلاثة فراغات كبيرة تسببت في تبني هذه المقولة أو التأثر بها، إبراز هذه الفراغات كافٍ في تهاوي هذا الاشكال على رأسه:

الفراغ الأول: 
ما هو عقل الشافعي الذي نحن نرتهن إليه؟
قبل أن نتلقى هذا الإشكال يجب أن نسأل أصحابه هذا السؤال: عقل الشافعي الذي ترون أننا قد ارتهنا إليه، ما هو بالضبط؟ 
في الحقيقة أن هذا الاشكال يتحدث عن عقل الشافعي ولا يكاد ينطق بعد هذا بشيء حول المقصود بعقل الشافعي، وماذا يعني.

والخطاب العلماني عندما ينص هنا على الشافعي هم فيه على مسلكين:
المسلك الأول: الذي يتحدثون عن عقل الشافعي وهم لا يعرفون عن الشافعي أي شيء يستحق الذكر، فالشافعي في الحقيقة عندهم هو مجرد "اسم رمزي" لعدم الاعتداد بأي تفسير للنص، فلو استبدلت الشافعي بأي إمام آخر من الائمة الأربعة، أو بأحد أعلام التابعين، أو بالمحققين بعد عصر الائمة، أو بأحد فقهاء الصحابة، أو جمعتهم كلهم، فالنتيجة لن تتغير، فالقضية عند أصحاب هذا المسلك هي في ترك الرجوع لكل السابقين، وبناء ًعليه فهو يأتي بالشافعي كاسم لا يعبر عن أي إضافة حقيقية.

المسلك الثاني: من يرى أن الشافعي قد أطّر العقل الفقهي وضيق حركة التفكير بوضعه لقواعد أصول الفقه، فيرى هنا أن الشافعي هو السبب لكونه هو الذي أنشأ هذه القواعد ثم تلقاها الناس من بعده.
وهؤلاء يظنون أن الشافعي –لأنه أول من دوّن كتاباً في أصول الفقه- هو من وضع قواعد التفكير لفهم النص، ثم سار الناس عليها بعد ذلك، وأما العصر الذي قبل الشافعي فقد كانوا يفكرون بشكل مختلف!
فأنت هنا بين مسلَكَي تفكير، مسلكٌ لا يفقه عن الشافعي أي شيء يذكر وإنما يأتي به كنموذج يمكن أن تستبدله بأي اسم آخر، ومسلكٌ يظن أن الشافعي هو من ابتكر قواعد الفهم فيجب بناءً على رأيهم أن لا نخضع لقواعد الشافعي.

وكما ترى، فهذه نقطة فراغ فاضحة، تكشف عن جهل كبير بالشافعي، وجهل كبير بقواعد الأصول من قبله ومن بعده.
والأعجب أن هذا جهل بقضايا بدهية يعرفها أدنى دارس للتراث الفقهي، فالشافعي لم يبتكر قواعد فهم النص، وإنما كانت هذه القواعد مقررة عند الصحابة رضي الله عنهم، وعند من بعدهم، جاء الشافعي فكتب فيها، وبعض ما كتب هو من القضايا القطعية التي لا يختلف معه فيها أحد، وبعضها هي محل اجتهاد ونظر، فحصها العلماء من بعده، وناقشوها، وما يزال البحث فيها مستمراً.
إذن، فعقل الشافعي يتعلق بالنظر في كيفية فهم الدليل الشرعي، وهو سائر في هذا على منهج من قبله، وسار من بعده على ذات المنهج: الاجتهاد في البحث عن دلالة الكتاب والسنة، والنظر في كيفية الترجيح بين الدلائل، وكيفية دفع التعارض بينها، وثم مساحة اجتهادية واسعة بينهم في هذا المنهج، لأن المقصود هو الكشف عن مراد الشارع، وهو محتمل للخلاف في مساحة كبيرة منه.
الذي حصل: أن الخطاب العلماني ضاق ذرعاً بهذا المنهج لأنه يدور حول الدليل الشرعي، ويتضمن أصولاً وقطعيات محكمة، ولا ينسجم مع جملة من المفاهيم والتصورات الخاضعة لمرجعية الحداثة العلمانية المعاصرة، فجاء هذا الهجوم لإسقاط هذه الطريقة العلمية الموضوعية في النظر، لأجل استبدالها بمرجعية عبثية غير علمية.

قد يقول شخص: 
لقد أبعدت كثيراً، نحن لا نتحدث عن أصول الاستدلال وقواعد الفهم للنص، فهذه محل اتفاق، وليس هذا مما يعاب عليه الشافعي ولا غيره، إنما الحديث عن المتغيرات التي تنشأ في عصرنا مما لم يعرفه الشافعي.
حسناً، هذا يكشف عن مساحة جديدة من الفراغ في معرفة عقل الشافعي.
ما الذي وجدته يا صاحبي في عقل الشافعي جعلك تشعر بالقلق من هذا العقل حين يفكر في متغيرات عصرنا؟
لعلك تتوهم أن فقه الشافعي وعقله سيقودك إلى تحريم الصناعات والمكتشفات مثلاً، أو أنه سيزهدك في العلوم الحديثة ويمنعك من الاستفادة منها، أو سيفرض عليك إهمال ما في عصرك من ضرورات وحاجات مختلفة، أو أن الشافعي لن يراعي واقع المسلمين وطبيعة علاقاتهم مع الدول الأخرى؟!
هذا الإشكال لا يمكن أن ينشأ إلا في عقل شخص بعيد جداً عن فقه الشافعي وعقله، فهو يتوهم أن الشافعي لا يفقه المتغيرات، ولا يراعي الواقع، ولا يقدر أي شيء آخر، وإنما يضع أحكاماً كلية، ومتناً كاملاً ليحكم كل زمان ومكان بعقل منغلق لا يفكر في شيء آخر!
الواقع أن في فقه الشافعي ونظره واستدلاله ما يعين أي باحث معاصر على كيفية التعامل مع المتغيرات المعاصرة، فالحق أننا بحاجة ماسة إلى عقل كمثل عقل هذا الإمام الكبير، حتى نقدم اجتهاداً قوياً يحافظ على أصول الشرع ويحقق مصالح الناس ويدفع الضرر عنهم، وتوهم أن عقل الشافعي يعني عدم الالتفات إلى متغيرات الواقع ومستجداته ومعطياته هو فراغ كبير نشأ بسبب ظلمة الجهل بمن هو الشافعي.

عندنا إذن مجالان في عقل الشافعي: 
المجال الأول: ما يتعلق بفهم الدليل وأصول الاستدلال التي لا يختلف فيها الشافعي عن غيره، فهذا لا يتأثر بتغير الزمان والمكان، ولا بشروط تاريخية في عصره ولا في تغير في عصرنا، ما الذي سيتغير مثلاً في قاعدة قبول خبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أن الأصل في النهي التحريم؟ أو أن الخصوص مقدم على العموم؟ أو أن المحرم يستباح عند الضرورة، أو في شروط النسخ؟
هذه قضايا كلية متعلقة بفهم النص، ليست مرتبطة بظرف زماني ولا بمتغيرات عارضة، بل هي بحث عن كيفية فهم مراد الشارع فهماً صحيحاً، وقد يقع خلاف بين العلماء في البحث عن الأصوب في ذلك، والمجال يتسع للنظر والترجيح وفق الشروط الموضوعية، ولا علاقة لتغير الزمان والمكان بهذا كله. 

الثاني: ما يتعلق بالاجتهاد المبني على واقع معين، روعي فيه مصالح أو مفاسد معينة، أو ما كان من قبيل الاجتهاد في اختيار الحكم الشرعي الأرجح، فهنا لا أحد يقول بلزوم اتباع رأي الشافعي ولا رأي غيره فيها، بل ولا الشافعي نفسه يقول إن قولي فيها ملزمٌ لكل أحد في كل زمان ومكان، فلا معنى لإضاعة الجهد في التفكير بمثل هذا.
أعرف أنك ستقول يا صاحبي:
نحن لا نريد هذا كله، إنما نريد نقد الخطاب الفقهي المعاصر بوجود أوجه قصور فيه، وأنه يحتاج إلى تجديد الحياة فيه.
وما دام هذا مقصودك فما ما حاجتك إذن لأن تكرر تلك المقولات الحداثية ذات المضامين الباطلة، وأن تستند إليها في تبرير مثل هذه الحاجة إلى التجديد!