الارتهان إلى عقل الشافعي .. والفراغات الثلاثة:المقال الثاني
فهد بن صالح العجلان
خلاصة الجواب:
أن هذه المقولة قامت على ثلاثة فراغات كبيرة:
(فراغ الجهل بطبيعة عقل الشافعي الذي لا يريدونه) و: (فراغ الجهل بطبيعة النظر الفقهي في المتغيرات).
و: (وفراغ الجهل بواقع الخطاب الشرعي المعاصر).
- التصنيفات: طلب العلم -
الفراغ الثاني:
ما الموقف الفقهي من المتغيرات؟
هذا السؤال يعيش قلق التغيرات: نحن في زمان متغير، الحاجات مختلفة، الأيام متسارعة، ما يصلح للسنة الماضية ربما لا يصلح لهذه السنة، كيف تريدنا أن نحتكم لقرون ماضية ..
هنا فراغ كبير جداً، يتصور صاحب هذا الإشكال أن الفقهاء السابقين ما كانوا يعرفون المتغيرات ولا يتعاملون معها ولم يقدموا فيها أي شيء، كأنهم مجرد أدوات وقوالب جاهزة تنقل الأحكام المحفوظة من الكتاب إلى الواقع من دون أي اعتبارات أخرى، فجاء صاحبنا يسائلهم بدهشة: لقد ظفرت لكم بأمر مهم وضروري: الدنيا متغيرة أيها الناس وأنتم لم تنتبهوا لذلك!
المتغيرات هي جزء أساسي في بنية التفكير الفقهي، لا وجود لفقيه تام الأهلية لا يحسن التعامل مع المتغيرات، والقضية ليست مجرد أدوات نظرية وأصول معرفية في التعامل مع المتغيرات، بل تعامل النظر الفقهي مع المتغيرات عملياً، ومر على كافة الظروف والمتغيرات، وحصلت تغيرات ضخمة من عصر الصحابة رضي الله عنهم ثم من بعدهم، وشملت التغيرات كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وخاض الفقهاء في تفصيلات كثيرة، واختلفوا بسببها، وظهرت مدارس واتجاهات، فالنظر الفقهي تجاوز سؤال الوعي بوجود متغيرات، إلى البحث التفصيلي والغوص العميق في ذات المتغيرات نفسها، ومفصل أحكامها، وحدود ما يقبل منها وما لا يقب.
دعونا نتحدث قليلاً عن مساحة من التفكير الفقهي في المتغيرات:
- النظر في الضرورات التي قد تصيب الأفراد والمجتمعات، وضبط مفهوم الضرورة، وتحديد شروطها، وما الحدود التي تشملها الضرورة، وما الآثار المترتبة عليها.
- يقارب الضرورة مفهوم الحاجة وهي متغير شديد لكنه أخف من الضرورة، وله عناية كبيرة في البحث الفقهي.
- من المتغيرات: تغير المصلحة التي بني عليها الحكم الشرعي، ولها مجال واسع من العناية.
- النظر في مآلات التطبيق: فلا يكفي مجرد أي تطبيق للحكم، بل لا بد من مراعاة المآلات، ولها حضور في أبواب سد الذرائع، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، والحيل.
- ثم النظر في المصالح والمفاسد المتعارضة، وكيفية الموازنة بينهما، وغاص البحث الفقهي هنا في شعاب كثيرة في الأسس التي يبنى عليها دفع هذا التعارض، ووقع اختلاف وتباين بسببها.
- النظر في الأعراف، وآثارها، وما يعتد منها وما لا يعتد في الحكم الفقهي.
- النظر في حال الضعف والعجز الذي يصيب الأفراد والمجتمعات.
- مراعاة فقه الواقع، وضرورة التمكن من معرفة الحال قبل تنزيل الحكم الشرعي، فلا يكفي مجرد الحكم الشرعي إلا بعد مراعاة تحقق الأوصاف الشرعية في الواقع، وأن لا يكون ثم متغيرات جديدة مؤثرة في الواقع.
- النظر في النوازل الفقهية الجديدة وبحث حكمها.
وهكذا .. ستجد أنك أمام بحر متلاطم من البحث والتفكير والفحص في أصول المتغيرات، وآثارها، ومسائلها، تعاقبت عليه مدارس واتجاهات وأعلام خلال قرون طويلة، وتشكلت بسببه طرائق تفكير مختلفة، كلها تتقصد البحث عن كيفية تحقيق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في ظل هذا الواقع المتغير.
وفي أثناء ذلك يفحص النظر الفقهي المتغيرات نفسها، فليس كل متغير يكون معتبراً، فبعض المتغيرات هي انحرافات عن الشريعة، وبعضها لا يكون مؤثراً لأنه من قبيل الأوصاف التي لا تضر، وهكذا، فليس كل دعوى تغير تعني وجود تغير حقيقي، ولا وجود أي تغير حقيقي يعني انه مؤثر، وكلها تفصيلات عميقة مشبعة في البحث الفقهي.
إذا عرفت هذا أدركت سخف السؤال عن وجود متغيرات، فهو شخص يتباهى أنه قد أدرك للتو وجود التغير وأهميته!
تخيل شخصاً يأتي للطب الحديث فيقول لهم: يجب أن نطور أدواتنا في علاج المرضى فلا نكتفي بالتشخيص المعتاد، بل يجب أن نتجاوز النظر الظاهري للأمراض إلى البحث بعمق في الداخل!
سيمد الطبيب حاجبيه، وربما لن يفهم مقصود الاعتراض جيداً، لأن الطب الحديث تجاوز الوعي بهذه المشكلة إلى مجالات بعيدة جداً عن تفكير هذا الناقد الظريف!
إذن، هذا السؤال يحمل فراغاً كبيراً في تصوره عن النظر الفقهي التراثي القديم، فهو يتوهمه مجرد معلومات محفوظة وقوالب جاهزة لا تراعي متغيرات، وبناءً عليه لا تصلح مع المتغير الموجود في زماننا!
الفراغ الثالث:
ما الموقف الفقهي المعاصر من المتغيرات المعاصرة؟
هذا السؤال يدعو إلى ضرورة تجديد الخطاب المعاصر، وتصحيح العقل المسلم المعاصر عن الارتهان لعقل الشافعي.
وهنا منطقة فراغ جديدة متعلقة بطبيعة الخطاب المعاصر الذي ندعو لتجديده، وضرورة فكه عن الارتهان للشافعي، بسبب أنه لم يفهم المتغيرات المعاصرة.
في الواقع: أن الخطاب المعاصر تجاوز الوعي بالمتغيرات في عصرنا، فلا حاجة لأن تعدد لهم المتغيرات ولا أن تتباهى بذكر ما تعرف من مستجدات، لأن الخطاب شرع من قديم في تقديم رؤى تفصيلية في هذا الواقع، ووقع ثم تباينٌ كبيرٌ في تعاطيه مع هذا الواقع، وتشكلت مدارس، لا بأس أن تنتقد كل هذا، وأن تحدد أوجه القصور التي وقعت ، أما الحديث عن ضرورة التجديد بسبب وجود متغيرات فهو وقوف عند المربع الأول الذي لم يعد يقف عنده أحد.
ففي المجال الاقتصادي مثلاً: تجد أنك أمام حركة فقهية ضخمة في كيفية تقديم حلول فقهية تسد حاجة الناس إلى التمويل من دون الوقوع في الربا، ونشأ في أثر ذلك بنوك شهيرة، ولجان علمية متخصصة، وأقيمت مؤتمرات وندوات دولية، وأحدثت أقسام أكاديمية علمية، وما لا يحصى من الابحاث والدراسات، ووقع بسبب ذلك خلاف وتشكلت مدراس، وحصل بسببه مسارات تفكير مختلفة، فالموضوع تجاوز بسنوات ضوئية مجرد الحديث عن أهمية تقديم خطاب يراعي متغيرات!
وقل مثل ذلك في الجانب السياسي، والاعلامي، والعلمي، وفي قضايا الأقليات المسلمة، وفي دراسة النوازل المعاصرة، وغيرها من مجالات البحث والتفكير الفقهي المعاصر.
هل يعني هذا عدم نقد هذه الجهود، وخلوها من أي أخطاء؟
أرجو أن القارئ سيتفق معي أن سياق كلامنا يرفض هذا، وأننا نقرر بوضوح مشروعية نقدها، وضرورة تقويمها، وأهمية تصحيح أي أغلاط ترتكب فيها، وهي بحاجة ماسة للمراجعة المستمرة.
إنما إذا أردتَ أن تقدم نقداً لأي خطاب فيجب أن تكون ملماً بواقعه، وأن تحدد بدقة محل النقد، وأما الاكتفاء بالحديث العام العائم فهي طريقة كسولة، وتفكير ضعيف يحسنه كل أحد، وهو مبني على فراغ كبير في الذهن.
أستطيع بكل سهولة أن أقول: إن المتخصصين في علم النفس في العالم العربي والإسلامي لم يقدموا شيئاً يذكر، وأن كل المشاريع والكتب الموجودة هي مجرد ترجمات لما عند الغرب من دون أي إضافة حقيقية، وأننا بحاجة إلى تجديد في هذا الخطاب، ويمكن أن أكرر ذات هذه الاسطوانة مع علم الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، ويمكن أن أتمدد أيضاً إلى بقية العلوم بنفس الطريقة، فهي طريقة كسولة رخيصة لا تكلف الشخص أي مجهود يذكر سوى اختيار الكلمات المناسبة وحسن رص العبارات، لكن من يحترم العلم ويقدر الموضوعية يخجل من مثل هذه الاطلاقات، لا أن هذه العلوم سليمة من النقد، بل لأن شروط النقد تتطلب العلم بالواقع وليس التمدد وفق فراغات كبيرة من ضعف الادراك.
فالحديث المتكرر عن حاجتنا إلى التجديد، كلام سهل، لا يحمل أي قيمة علمية، ولا يتضمن أي شيء يستحق، الواجب هو تحديد محل الإشكال في الخطاب المعاصر بدقة، والسعي نحو تقديم الأفكار والابحاث التجديدية، ثم دع القراء والمتخصصين بعد ذلك يحكمون على مستوى هذا التجديد، لا أن نسمع كلاماً عن تجديدٍ لا نرى منه شيئاً.
خلاصة الجواب:
أن هذه المقولة قامت على ثلاثة فراغات كبيرة:
(فراغ الجهل بطبيعة عقل الشافعي الذي لا يريدونه) و: (فراغ الجهل بطبيعة النظر الفقهي في المتغيرات).
و: (وفراغ الجهل بواقع الخطاب الشرعي المعاصر).
ومع استحكام هذه الفراغات لا يمكن للشخص أن يقدم أي خطاب تجديدي معتبر وله قيمة.
التجديد حاجة ملحة وضرورة مهمة لأي خطاب، والخطاب الفقهي المعاصر بحاجة مستمرة إلى التجديد والمراجعة والتقويم، غير أن وعي المسلم المعاصر بضرورة التجديد يجب أن لا يكون سبباً للغفلة عن مشكلتين معاصرتين تصاحب دعوات التجديد كثيراً:
مشكلة قصور الاجتهاد والعلم: حيث تقوم مشاريع التجديد بلا ضوابط علمية، ولا أصول منهجية صحيحة.
مشكلة الشعاراتية: يتحول فيها التجديد إلى حالة شعاراتية قائمة على كثرة الحديث عن التجديد، والدوران حول الحاجة إلى التجديد، من دون أن نلمس أي مشاريع حقيقية تعبر عن هذا التجديد المنشود، ويزيد حالة الشعاراتية سوءاً في تكرار الدعوة عند بعضهم إلى التجديد من دون إبراز لضوابط التجديد، ولا بيان لحالات الانحراف المعاصرة فيه، أو ربما وافق بعض المنحرفين في دعواتهم إلى التجديد، والواقع أنه ليس كل تجديد هو تجديد في الحقيقة، بل كثير من دعوات التجديد المعاصرة هي انحرافات عن الشريعة، وعبث بأصولها باسم التجديد، فالسكوت عن البيان الجلي فيها خلل كبير.
فــ: (قصور الاجتهاد والعلم) و (الشعاراتية): عيبان شائعان في الحديث عن التجديد في حالتنا المعاصرة، ووعي المسلم المعاصر يجب أن يكون عميقاً في التفطن لمثل هذا، فالحاجة إلى التجديد لا تعني التساهل في قبول أي مشاريع تجديدية بلا أصول ولا منهجية علمية صحيحة، ولا أن يكتفى معها بالحديث عنه والدوران حول الحاجة إليه، لأن الحاجة إلى التجديد الفقهي المعاصر يتطلب من قوة العلم ورصانة البحث وعمق التفكير وسعة الاطلاع ما يتجاوز مجرد الوعي بالحاجة او الحديث السهل عنها.